مع دخول العام نهاياته، جاء تقرير البنك الدولي ليكشف ما لا يجرؤ المسؤولون على البَوح به: «في العام 2020 كان النمو الحقيقي ناقص 19.2 %. ومع حلول 2021 سيصبح أكثر من 50 % من السكان فقراء». هكذا، وبضربة واحدة، على الجميع أن يستعدّوا للأسوأ على كل المستويات. ولكن، في ظل هذه الفوضى المطلقة، لا يبدو أحد قادراً على تَخَيُّل السيناريوهات الآتية بعد «الانهيار الكبير».
يقول ديبلوماسي عتيق إنّ لبنان بات اليوم شبيهاً ببناءٍ تغزوه التشقُّقات العميقة، بدءاً من ركائزه وأعمدته وصولاً إلى آخر مدماك. وفي كل يوم، يظهر صَدْعٌ جديد، عميق. أمّا سكانه، في الداخل، فلا يريدون أن يَروا شيئاً أو يفكِّروا في شيء. إنهم منشغلون بنزاعاتهم على وراثة المحتويات. وما هي إلا لحظات حتى يسقط السقف على الجميع. وسيكون سقوطه عظيماً.
وإنّ علامات التصدُّع الحالية، التي باتت تهدِّد بالسقوط العظيم، هي الآتية:
1 - المأزق الذي وصلت إليه مفاوضات الناقورة، والذي يستدعي الخروج منه بالحنكة والحكمة، ومن دون التفريط بالمصالح والحقوق طبعاً.
على لبنان ألّا يسمح بالمغامرة غير المحسوبة العواقب، بفتح مواجهة مباشرة بينه وبين إسرائيل، ولا بمزيد من الاستثارة في علاقاته بالولايات المتحدة. ويجدر التوقف بجدّية عند ما يحمله الديبلوماسيون الأميركيون من رسائل إلى لبنان، خصوصاً من خلال السفيرة دوروثي شيا والوسيط جون دي روشيه.
2 - الفراغ السياسي والمؤسساتي والدستوري. فلبنان بلا حكومة حتى إشعار آخر، وكل مؤسساته الأخرى مشلولة أو «فارطة». وسبب الفشل في قيام حكومة هو الصراع بين إيران والولايات المتحدة حول تمثيل «حزب الله» في هذه الحكومة وامتلاكه القرار السياسي والمالي الأمني. ومن دون حكومة ومؤسسات، البلد يتفكّك، والانهيار يتواصل.
3 - تَسارُع العقوبات الأميركية على لبنان وانتقالها إلى مَواطِن شديدة الدقّة. فالعقوبات بدأت «بسيطة» قبل 4 سنوات باستهداف كوادر يساهمون في تمويل «حزب الله». ثم اتّسعَ نطاقها لتطاول مصرفين تحت العنوان إيّاه. وبعد ذلك، استهدفت حلفاء لـ»الحزب» من الصف الوزاري، ثم رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل.
واليوم، هناك توسيع إضافي للعقوبات لتشمل سياسيين ومسؤولين من فئات مختلفة. لكنّ الأهم هو اقتراب ما كان يخشاه كثيرون، منذ سنوات، أي استهداف مؤسسات القطاع المصرفي والمالي، بدءاً بمصرف لبنان، تحت عنوان تمرير الأموال لـ»حزب الله». وهذا الأمر سيقود إلى كارثة حقيقية لأنه سيعزل لبنان تماماً عن المنظومة المالية الدولية- فوق انعزاله الحالي- ويتسبب بكارثة أين منها كوارث فنزويلا وإيران.
4 - استطراداً، وبسبب الموقف من «حزب الله»، سيشتدُّ حصار الولايات المتحدة والأوروبيين والخليجيين العرب على لبنان الدولة، فلا يحصل على دولار واحد. والأخطر أن يتم الربط بين «الحزب» ورفض المصرف المركزي والطاقم السياسي أي تدقيق جنائي مستقل في المصرف وسائر مؤسسات الدولة، لا خوفاً من كشف عمليات النهب «العادية» فحسب، بل خوفاً من انكشاف أقنية تمويل «الحزب» أيضاً.
5 - تعليق المفاوضات حتى إشعار آخر مع صندوق النقد الدولي وسائر المؤسسات الدولية المانحة، بسبب إصرار طاقم السلطة على إفشال أي محاولة إصلاحية، خوفاً من انكشاف الفضائح. وهذا ما يقود مباشرة إلى تعطيل أي تدخُّل من جانب هذه المؤسسات لإنقاذ لبنان، وتالياً إلى اهتراء الوضع المالي والنقدي والاقتصادي بلا حدود.
وبدءاً من اليوم، سيدخل الواقع الاجتماعي مرحلة مُلتهبة، مع تخيير الناس بين أمرين ظالمين: إمّا سلبُهم ما بقي لهم من فُتات الودائع المصرفية على الدفاتر، وإمّا رفع الدعم تدريجاً عن السلع الحيوية من غذاء ودواء ووقود، فيما المداخيل- أو ما بقي منها- ما تزال بالليرة اللبنانية إجمالاً. وكل ذلك سيتم برعاية انهيار نقدي مريع يتوقعه الخبراء، وهو ما سيدفع الناس والدولة والبلد كله إلى حفرة لا قرار لها.
هذه هي العلامات الـ5 للسقوط العظيم، الوشيك. لكنها ليست الوحيدة، بل هناك فوقها وتحتها عشرات العلامات الأخرى، سياسياً واقتصادياً ونقدياً ومالياًَ وأمنياً.
في الفترة الرمادية دولياً وإقليمياً لا أحد عنده الوقت لينظر إلينا ويترأف بنا. فقط «أمُّنا الحنون» فرنسا تُجرِّب قدْر ما تستطيع. ولكن، حتى اليوم، «لم يَطْلَع» في يدها أكثر من كَراتين الأرزّ والسكّر وشاشات تضميد الجروح. والمحزن أن «أمَّنا» لا تجرؤ على إعطاء هذه الإعاشات للزعران باليد، لأنهم سيسرقونها كما سرقوا كل شيء قَبْلها!
العصابة المُمسكة بالبلد لا تتصرَّف على أساس أنه «هو» في وضعية الحياة أو الموت، بل على أساس أنها «هي» في وضعية الحياة أو الموت. وطبعاً، العصابة تُفضِّل أن يموت «هو» وتَحيا «هي»، وليس العكس. لذلك، إذا لم تتحقَّق معجزة في اللحظات الأخيرة، يمكن القول إنّ تقرير البنك الدولي الصادر حديثاً لن يكون شبيهاً بقرْعِ نواقيس الخطر، بل بقرْعِ أجراس المآتم.