«الأميركيون أنفقوا 10 مليارات دولار في لبنان لمواجهة "الحزب"، لكنهم فشلوا». هذا الكلام جاء نافراً من نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، وفيه ظهرت نشوة الانتصار عندما أضاف: "نصحناكم قبل عام بعدم إسقاط حكومة الحريري. أما قلنا لكم ستخسرون الوقت وتعودون"؟ فهل يَعتبر "حزب الله" أنّه حسم معركته مع الأميركيين بتحقيق الانتصار؟
كلام الشيخ قاسم يكشف نظرة «الحزب» إلى ثورة 17 تشرين الأول، أو بعض مكوّناتها على الأقل. فهو لم يتردَّد، منذ اليوم الأول، في اتهامها بأنّها جزء من ماكينة الضغط الأميركية الهادفة إلى إضعافه.
لكن واشنطن، في المقابل، لم تخبّئ يوماً نيَّتها إضعاف «الحزب». فهي تخوض ضدّه حرب عقوبات شرسة، ضمن خطة واضحة، لتجفيف منابع تمويله. وأما في موضوع «الثورة» أو «الانتفاضة»، فتعلن التأييد السياسي، وتتعاطى مع المسألة باعتبارها شأناً محض داخلي، أنتجته تلقائياً نقمة الناس على الفساد والجوع والإحباط.
يصرُّ "حزب الله" على القول إنّ جزءاً من الأزمة المالية - المصرفية - النقدية مفتعل، ويقف وراءه الأميركيون، بهدف الحَجر على الدولارات العائدة لـ"الحزب" في القطاع المصرفي اللبناني، ولزيادة الاحتقان الشعبي ضدّ السلطة التي يشكّل "حزب الله" أحد ركائزها.
ومراراً، حرص الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله على التأكيد أنّ الضغوط المالية والمصرفية والنقدية لا تؤثّر عليه إطلاقاً، وقال حرفياً: "أموالُنا ليست موجودة في المصارف".
وإضافة إلى ذلك، بقي "حزب الله" الأكثر ارتياحاً على الصعيد المالي، خلال الأزمة. والدليل أنّ عناصره وكوادره استمروا في تقاضي رواتبهم ومستحقاتهم بالدولار «الكاش»، فيما غالبية الموظفين إما باتوا بلا عملٍ وراتب، وإما يتقاضون رواتب زهيدة القيمة بالليرة.
فوق ذلك، يجزم المطلعون أنّ غالبية منابع التمويل التي درج "الحزب" على استقاء أمواله منها، لم تتأثر بالأزمة خلال العام المنصرم، سواء كانت في داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها أو خارجها، لأنّه يحتفظ بما يكفي من نفوذ للإمساك بهذه المنابع.
ويستطرد أحد القريبين من "الحزب": عبثاً عمد الأميركيون إلى إرهاق البلد وشعبه، وفرضوا حصاراً عربياً ودولياً خانقاً على القطاع المصرفي، لكن «الحزب» لم يتأثّر. واليوم، بعدما اقتنعوا بعبثية محاولاتهم، عادوا يجرّبون المقاربة القديمة.
لقد أقتنعوا من حلفائهم الأوروبيين بأنّ انهيار النظام في لبنان سيقود إلى فراغ يملأه الأقوى على الساحة، أي «حزب الله». وهذا ليس في مصلحة لا إسرائيل ولا الحضور الغربي في شرق المتوسط، حيث المستقبل يُنذر بصراعات دولية وإقليمية شرسة على الغاز والنفط.
طبعاً، لا ينسى «حزب الله» تذكير الغربيين بأنّ منع انهيار لبنان ضمانة لمنع تمدّد الجماعات الإرهابية، والحؤول دون تدفّق قوارب اللاجئين إلى شواطئ أوروبا.
هل يعني ذلك أنّ "الحزب" ربح المعركة ضد الأميركيين؟
الأرجح أنّه استنتاج متسرِّع. فالمعركة ما زالت مستمرة، ولو تخلّلتها استراحات قصيرة. وعادةً، الحرب تحسمها معارك كثيرة، لا معركة واحدة. ولكن، يجدر الاعتراف بأنّ «الحزب» استعاد جزءاً من مبادرته في هذه الفترة:
1- الفريق الشيعي، عبر الرئيس نبيه بري، هو الذي يتولّى زمام التفاوض مع إسرائيل، بوساطة أميركية.
2- طاقم السلطة، الذي يشكّل الثنائي الشيعي ركنه الأساسي، في صدد استرجاع غطائه في السلطة التنفيذية، مع تكليف الحريري من جديد.
وفي تقدير القريبين من "الحزب"، أنّ واشنطن ستجد نفسها مضطرة إلى اتباع سياسة أكثر واقعية في لبنان، أياً كان الفائز في الانتخابات الرئاسية. وأما عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض، إذا حصلت، فيمكن أن تمنح إيران هامشاً واسعاً للتفاوض أينما كان، وقد تفتح الآفاق لتسوية جديدة تريحها سياسياً واقتصادياً.
في الانتظار، ما هي خيارات "الحزب" في المرحلة المقبلة؟
في العمق، هو يدرك أنّ هناك تحوّلات مفصلية آتية إلى الشرق الأوسط ولبنان، ولا بدّ أن تترك تأثيراتها عليه. فـ"الحزب" بعد التحوّلات لن يكون هو نفسه قبلها: ربما يكون أقوى أو أضعف، وربما يكون في نقطةٍ يأخذ فيها ويعطي، بحيث يصعب التفسير هل هو ازداد قوةً أو ضعفاً.
ولكن، أياً كانت التحوُّلات الداخلية والإقليمية وطبيعة الصفقة الأميركية- الإيرانية- إذا عُقِدت- فـ"الحزب" سيسعى إلى تكريس نفوذه في لبنان، بل إلى الإمساك بالقرار ليحصد ثمار جهود بذلها على مدى أربعة عقود. وسيعمل ليبقى مرتبطاً بمصدر قوته، طهران.
يُقال إنّ "الحزب" قد يعطي عسكرياً ليأخذ سياسياً. وفي الترجمة، هو لن يتنازل عن السلاح وقرار استعماله ووجهته إلّا إذا صارت السلطة تطمْئِنه تماماً، أي، إذا صار هو السلطة. في هذه الحال، هو يُسلِّم لها بنفوذه، أي يُسلِّم نفسَه لنفسِه. وما عدا ذلك لن يكون قابلاً للبحث.
إذا أخذ "الحزب" وأعطى في المسائل المطروحة، فمن الممكن أن يحظى بدعم العديد من القوى الدولية ليحقّق هذا الهدف. ولكن، هل معادلات القوى الطائفية والمذهبية والسياسية في الداخل ستسمح بذلك، ولو كان «الحزب» هو الأقوى على الأرض؟ وهل يتحمَّل لبنان وتركيبته هذا النوع من التنافر والتناحر؟