مخيف أن يَرْكَب بعضُ أركان السلطة السياسية رؤوسَهم، ويظنّوا أنّهم قادرون على تَحدّي الرئيس دونالد ترامب، وهو في طريق الخروج من البيت الأبيض (مبدئياً). والأحرى بهم أن يفكِّروا في أنّ الرجل باقٍ هناك حتى 20 كانون الثاني. وفي فترة الشهرين وثُلْث الشهر، المتوتِّرة بكل المعاني، تصبح كل المفاجآت ممكنة.
قبل الانتخابات الأميركية، كانت الطبقة الممسكة بالسلطة في لبنان تعتمد سياسة «تقطيع الوقت» لإمرار هذا الاستحقاق والبناء على الواقع الجديد.
طبعاً، هي بمفردها لا تمتلك القدرة ولا الحنكة لاعتماد هذا الخيار الصعب والصمود فيه. لكنها تتلقّى الدعم من طهران، وتستفيد ممّا بقي للبنان من تغطية عربية وأوروبية، وفرنسية تحديداً.
فالإيرانيون مارسوا سياسة الصبر وراهنوا على زوال نهج ترامب الأكثر تطرّفاً في اليمين الجمهوري، وعودة نهج أوباما الأكثر وسطيةً في الوسَط الديموقراطي. واعتبروا أنّ ذلك سيبدّل خريطة النزاع بين المَحاور لمصلحتهم. ويعتقد الإيرانيون أنّ تبدُّل القيادة في البيت الأبيض سيقوّي الاتجاهات «الاستقلالية» عن واشنطن في دول أوروبا الغربية، ولا سيما منها فرنسا. وسيقود إلى انقلابات حتمية في نهج عدد من الدول العربية الأشدّ تحالفاً مع الأميركيين.
وفي الخلاصة، يراهن الإيرانيون على أنّ عودة الديموقراطيين ستمكّنهم من الاحتفاظ بالنفوذ الإقليمي، أي بسلطتهم في اليمن و»الهلال الشيعي»، بدءاً بالعراق وسوريا ولبنان، وصولاً إلى غزّة.
ولهذا السبب، تماطل إيران في تقديم أي تنازل في هذه الدول، وخصوصا في الركيزتين الأساسيتين لـ«الهلال»، بغداد وبيروت. وفي تقديرها أنّ بايدن سيخفّض سقف المواجهة. في أي حال، حتى ترامب لم تكن الحرب هاجسه في التعاطي مع إيران، بل «الصفقة» التي وعدَ بها علناً عشية الانتخابات. لكن طهران ليست مستعدة لدفع ثمن مرتفع في هذه «الصفقة»، وهي تراهن على أنّ بايدن سيعترف باتفاق فيينا كما هو.
في المعلومات، أنّ طهران طلبت من القوى الحليفة لها في الشرق الأوسط، ومنها «حزب الله»، عدم التخلّي عن سياسة «تقطيع الوقت»، إلى أن يتسلَّم بايدن مقاليد الحكم. وبعد ذلك، تخاضُ المفاوضات الشاملة مع الإدارة الجديدة، أي في آن معاً، من الرأس في طهران والأطراف في بغداد وبيروت وسواهما.
هذا يعني أنّ الأزمات اللبنانية التي كانت عالقة، بسبب انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، ستستمرّ بلا حسم إلى أن تمسك الإدارة الأميركية الجديدة بملفّاتها وتطلق المفاوضات ويُصار إلى حسم المسائل. وهذا يعني أنّ الملفات اللبنانية لن تجد حلولاً في ما تبقّى من العام الجاري، ولا في الشهرين أو الثلاثة الأولى من السنة المقبلة، على الأقل.
وثمة مَن لا يستبعد أن تحصل في الشهرين المقبلين مشاورات عبر أقنية غير مباشرة، وغير رسمية، بين بعض المحسوبين على الرئيس الجديد وبعض القريبين من الحكم في طهران، ما يسرِّع إنضاج طبخة التسوية عند تسلُّم بايدن زمام السلطة. لكن أي خطوة تنفيذية لن تكون متوقعة قبل آذار أو نيسان 2021، أي بعد 5 أو 6 أشهر من الآن. وهذا ما يجدر بقوى السلطة في لبنان أن تعرفه. وفي هذه الحال، عليها أن تسأل:
1- هل سيتمكن لبنان المهترئ من الصمود حتى انتهاء فترة الشهرين ونصف الشهر الباقية من عهد ترامب، وفترة الشهرين ونصف الشهر التي تحتاجها ولاية بايدن لتبدأ بتنفيذ القرارات؟ وهل سيتاح لها إمرار هذه الفترة الطويلة، لتنقذ رأسها وتعود إلى سابق عهدها في الحكم، بلا ثورة 17 تشرين ولا ثوار ولا معارضة سياسية؟
2- هل تمتلك هذه القوى تأكيدات أنّ بايدن لن يتعاطى مع الملفات اللبنانية بطريقة ترامب إيّاها، وأنّ نهج الإدارة الأميركية في لبنان ثابت في العمق، ولو طرأت تعديلات على الأسلوب بين الجمهوريين والديموقراطيين؟
3- هل تعرف هذه القوى أنّ إسرائيل هي العنصر الحاسم في رسم السياسات الأميركية في الشرق الأوسط ولبنان، جمهورية كانت أو ديموقراطية. وأنّ الحزب الديموقراطي كان تاريخياً هو الأقرب إلى مراعاة مصالح إسرائيل؟
4- بعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، هل تنجح هذه الطبقة السياسية في تحصيل المال من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول العربية الغنية وأوروبا، من دون مراعاة الإصلاح، وضمناً رفع وصاية طهران عن المؤسسات؟
مشكلة هذه الطبقة أنّها تنفِّذ توجيهات طهران بـ»تقطيع الوقت» لأنّ لا خيار أمامها سوى ذلك، ولأنّ البديل هو سقوطها ومحاكمة أركانها جميعاً بتُهَم الفساد. وهي لا تعرف إذا كان هذا الانتظار الجديد سيحمل إليها «سترة النجاة» أو سيعمِّق الغرق لها وللبلد، ولكنها تنتظر.
لكن المخيف، هو مستوى التحدّي الذي يمارسه أركانها، إلى حدّ الشماتة بترامب، من دون حساب الردود التي يمكن أن تصدر عنه في هذه الحال. فحتى الآن، إدارته حافظت على توازن مقبول في وساطتها بين لبنان وإسرائيل، في مفاوضات الناقورة، بعدما كانت في السابق أقرب إلى الموقف الإسرائيلي.
وفي ما يتعلق بالقطاعين المصرفي والمالي، اكتفت إدارة ترامب بالضغط على لبنان ومطالبته بالشفافية، لكنها لم تشارك في عملية خنقه مالياً، ولو فعلت لكان في وضع كارثي منذ مدة طويلة. ويكفي أنّها تضبط الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّ المصارف اللبنانية منذ سنوات وتضبط جموح الدائنين الأجانب.
فهل يتصوَّر أحد ما معنى التذاكي على الأميركيين، أو الظنّ بإمكان الاستقواء عليهم، سواء خلال الفترة المتبقية من عهد ترامب أو بعد ذلك؟ وهل يقدّر أركان السلطة الحالية معنى أن ينقلب الأميركيون ضدّهم وضدّ لبنان، سواء في مفاوضات الناقورة أو حماية الاستقرار المالي والمصرفي والنقدي؟
ما يدعو إلى القلق هو هذا المستوى من الرعونة وانعدام المسؤولية لدى أركان السلطة. فمَن يسمعْ بعضهم، وهو يتحدّى ترامب و»يَشْكوه» لدى بايدن، يظنّ أنّ لبنان هو الذي يصون الجيش الأميركي، وهو يحمي الاستقرار السياسي والأمني والمالي الأميركي، لا العكس.
ولذلك، في ظلّ هذه الطبقة، يصبح مشروعاً الخوف في لبنان وعليه، خصوصاً في الفترة الانتقالية، لأنّها قاتلة وفيها «ممنوع الغلط».