بقلم: سمير عطا الله
كلما كبر الإنسان وازدادت تجاربه سهلت اقتناعاته واسترسل لإيمانه بالأقدار. وأرسطو يقول إن الله لا يخلق الكون كل يوم، لكنه يحركه كل لحظة، ويطلقه على الدوام ضمن نظام الكون في الصح والخطأ، وفي احتمالات الشواذ، من ضمن القاعدة نفسها.
والفلاسفة لا يخلقون كوناً جديداً ولا طبيعة جديدة، لكنهم يفسرون لنا حركة الطبيعة وطبيعة البشر. وبحسب أرسطو، الأساس في الطبيعة وفي الإنسان، يأتي من الخارج لا من الداخل. بذرة العبث تأتي عنباً لا سنديانة. ومن الخارج يبدو البيض كله على شكل واحد وقشرة واحدة، لكن من الداخل تكون مرة دجاجة ومرة أوزّة، ومرة كنارياً ساحراً. ولست أذكر من الذي قال إن الغربان تأكل البلابل، لعلها بذلك تستطيع أن تغرد، لكن لا يتأتى لها من ذلك سوى الريش الأسود. ويظل لهذه تغريد ولهذه نعيق. والمثال الأكبر على نظرية أرسطو هو الإنسان. الشكل واحد والمكونات واحدة والبيئة واحدة وظروف الجنين واحدة، لكن من هذا الكائن يظهر الولي الصالح والحكيم، والعبقري، والمجرم، والشاعر، والمخترع، والذي حرق الطيار الأردني في قفص، ويعرض الشريط على العالم. وبعض من في هذا العالم يفرح.
مع التقدم في العمر تتقدم في العلم وتعلم أكثر أن الدنيا قدر وقرار معاً. يقول الشاعر الفرنسي ألفرد دوفيني: «تفتقد كائناً واحداً فإذا العالم قفر». ولو أكمل لأضاف: «يحضر كائن واحد وإذا العالم امتلاء». وفي الحالتين القدر يضعك في طريق هذا الكائن، أو يمر دهر ولا تعرف بوجوده.
الحقيقة أن سقراط وأفلاطون والجاحظ وهيغل، لم يفلسفوا الأشياء لنا، بل بسطوها وأوضحوها لكي نفهمها ونبررها ونتمكن من الحياة معها. والتبسيط من أعقد الأشياء وأصعبها. لذلك يوكل الأمر إلى معلمين. ولذلك أيضاً، العلم مثل الفكر، لا نهاية له.
تطوّرت مهنة الصحافة التي أدعي معرفتها منذ بداياتي إلى اليوم، ألف عام على الأقل في كل اتجاهاتها، ومع ذلك تتطلع إلى بعض المعيَّنين عليها وتشعر أنك رأيتهم منذ ألف عام. وما يزال أمامنا ألف عام آخر. لأن المسألة في الداخل، كما شرح الموقر سقراط. مسكين ذلك الأستاذ، فضل الانتحار بالسم على أن يموت قهراً بالعيش مع الجهلاء. وعندما أطلب من سعادته المزيد من التوضيح يتأفف لأنه على موعد مع حواريه: «لا وقت لدي. تعال احضر صف يوم الثلاثاء أمام الأكروبوليس مع بقية التلامذة». وذهبت يوم الثلاثاء ولم أجده، فسألت الشباب، ماذا حدث للمعلم، قالوا تباً للعناد، فقد قرأ ثلاث مقالات عن محاربة الجهل والغرور دفعة واحدة، ومات بالخانوق.