بقلم - سمير عطا الله
اليوم تُسعُونها، نهاد حداد، الملقبة «فيروز».
حكاية كل حب، مغنية مكة، شجية القدس، صداحة الشام. تسعُونها، اليوم. تسعة عقود، من كل قصيدة لحن. صوت لكل الألحان. أحياناً تبدو وكأنها تغني من القمر، وأحياناً من أعالي البحر، وأحياناً من عشيّات القرى، وفجأة، يرتفع الصوت فوق أمواج الحنين، ونداء المدن: يا قدس... يا زهرة المدائن.
كنا نعتقد أنها مغنية لبنانية لن تبتعد كثيراً خارج الحدود، فإذا بها ترفرف به في الصحارى، والقفار، وبوادٍ دونها بيد. أحبها العرب في جميع الأصقاع، في كل الفصول، في شتى المشاعر.
ثلاثي عبقري التقى في مصادفة من عطاءات الزمان، وتحول إلى عصر نادر في عصور الفن والشعر والمسرح: الشرطي البلدي عاصي الرحباني، والشرطي البلدي منصور الرحباني، ونهاد حداد، البنت التي ليس في بيت أهلها مذياع، فتسمع الأغاني من منزل الجيران.
فإذا بالثلاثة هؤلاء يشكلون معاً ينبوعاً ينبع في سفوح الجبال، نقياً صافياً مغرداً مثل أسراب البلابل.
لو لم يلتقِ الثلاثة ذلك اللقاء القدري، لما كان لنا هذا العصر بألف لون. شرطيان تعلما عزف الكمان، ويقتحمان دار الإذاعة البدائية. وهناك يلتقيان فتاة فقيرة مقبلة مشياً من بيتها القريب، لكي تبحث عن دور في (الكورس) (المجموعة)، أو الفرقة. مجهولون ثلاثة، يكدّون، يجتهدون، يكرّسون، ويلمعون معاً. ثلاثة نجوم في سماء الفن العربي.
عاشوا في طبقات لبنان البسيطة، ثم الميسورة، وظلوا فوق رغبات وشهوات وصغارات اللبنانيين. لا طائفية، ولا طوائف، ولا انعزالية. بل ضحك جميل، ساخر من كل ما هو كذلك. ونجمة الثلاثة في أرفع مراتبها، كيفما أدّت: سحر الغناء، أو سحر التمثيل المسرحي، أو هيبة الإنشاد الوطني.
وفي حياتها الخاصة، كانت نهاد حداد أيضاً سيدة البيوت. أم متكرسة، وسيدة لا يغريها في الخارج أي ضوء من الأضواء. لا في حياة عاصي، ولا بعد غيابه. وثمة مسحة من الحزن لم تفارق الدار التي صنعت الكثير من الفرح في حياة الآخرين. لكن هذه أيضاً أبقتها لنفسها ولكبريائها. ولم تدخل يوماً صخب «الوسط الفني» وأجداثه وإشاعاته، وما خفي وما شاع.
تُسعون سنة بسيطة مباركة، صوتها أعلى من الموسيقى، وغناؤها أجمل من الشعر.