بقلم:نديم قطيش
فات الزمن على المقاطعة السنية للانتخابات النيابية أو لتعليق الحياة السياسية في لبنان. انتفاضة الناس بكل توجهاتهم السياسية ومدارسهم الفكرية حتى مشاعرهم البسيطة، ما عادت تسمح لأي من أركان المنظومة الحاكمة أن يقطف مجد المقاطعة والتعليق.
هذه خطوة يتخذها السياسي من موقع النضال والمواجهة، لا من الموقع المدان شعبياً، أياً تكن المبالغات التي تنطوي عليها هذه الإدانة، أو عدم الدقة في توزيع المسؤوليات عن موضوع الإدانة.
مرت في تاريخ تجربة «تيار المستقبل» ورئيسه 3 محطات استراتيجية لقلب الطاولة والخروج المشرف من لعبة السلطة والتعايش القسري مع ميليشيا «حزب الله»، قبل الخروج الاضطراري الذي يراد تلوينه اليوم بألوان الانتفاضة والثورة المضادة...
1 - في مثل هذا الشهر الحالي، قبل 14 عاماً عاش اللبنانيون تجربة ما يسمى «7 أيار»، حين اجتاحت ميليشيا «حزب الله»، في 7 مايو (أيار) 2008 بيروت وجبل لبنان، بالتعاون مع «ميليشيات أمل» والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض فلول «سرايا المقاومة».
انتهت العملية العسكرية المحدودة بتراجع الحكومة عن قرارات كانت اتخذتها تخص شبكة الاتصالات الخاصة بميليشيا «حزب الله»، ثم جرت المصالحة في الدوحة، وتوقيع اتفاق حمل اسم العاصمة القطرية. شكل لا يزال في مضمونه السياسي أخطر عملية تعديل غير مباشرة للدستور اللبناني، من خلال فرض أعراف جديدة، أبرزها القبول بحصول الميليشيا على حق الفيتو داخل مجلس الوزراء (الثلث المعطل)، وإدراج عبارة «ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة» في كل البيانات الوزارية، كاعتراف حاسم بدور وهوية «حزب الله» ومنح سلاحه الغطاء الدستوري العلني.
بدل التعليق والمقاطعة يومها، ورفض الذهاب إلى الدوحة، قرر حزب المستقبل، بدفع من كل أركانه، وبالتكافل والتضامن مع بقية الأحزاب الرئيسية، فيما كان يعرف بجبهة «14 آذار»، الانخراط في تجربة استرضاء الحزب وسلاحه والاستمرار بالتعايش القسري معه وبشروطه.
2 - بعد فوز «14 آذار» بالانتخابات النيابية عام 2009 وتشكيل الرئيس سعد الحريري حكومة ما بعد الانتخابات، وأولى حكوماته، اندلعت معركة سياسية كبرى حول تسويات اقترحها «حزب الله» لملف المحكمة الخاصة بلبنان، الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انتهت بإسقاط الحكومة باستقالة ثلث أعضائها (تذكّر عزيزي القارئ أن هذه من قواعد اتفاق الدوحة التي أقرت بقوة السلاح).
ما حصل بعد الإقالة أن ميليشيا «حزب الله» أعادت بشكل رمزي التذكير باستعدادها لتكرار تجربة «7 أيار»، ما أدى إلى تغيير النائب وليد جنبلاط لتموضعه السياسي، وأن يسمي في الاستشارات النيابية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة بدلاً عن سعد الحريري. مجريات الأسبوعين بين إسقاط حكومة الحريري وترئيس نجيب ميقاتي، وصفها الحريري يومها بأنها محاولة اغتيال سياسي جديدة، بيد أنه عوض أن يعلق مشاركته في الاستشارات، ويعلن مقاطعة العمل السياسي من داخل المؤسسات تحت سطوة ترهيب السلاح، وأن يحجب تالياً الميثاقية السنية عن «استشارات الاغتيال السياسي»، قرر مع أركانه الرئيسيين، المشاركة في اللعبة الدستورية، ما أسبغ كامل الشرعية على الانقلاب الثاني لـ«حزب الله».
3 - شكلت معركة المحكمة الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، واحدة من أعلى المعارك كلفة في تاريخ التجربة اللبنانية المعاصرة. اغتيل في سياق معركة منعها وإسقاطها وتعطيلها مجموعة من أرفع النخب اللبنانية الإعلامية والسياسية والأمنية، وعطلت البلاد لسنوات طويلة وأقفلت المؤسسات، وأعدم الاقتصاد، وجرى تدمير ممنهج للعاصمة ووسطها كامتداد رمزي لتصفية إرث الحريرية السياسية.
بيد أنه في كل مفاصل المحكمة الخاصة، خاصة بعد صدور القرار الظني الذي يتهم عناصر محددة في ميليشيا «حزب الله» بالتآمر وتنفيذ جريمة الاغتيال، ثم بعد صدور الحكم الواضح المعلل، كان موقف تيار المستقبل (لا سعد الحريري وحده)، هو الاستمرار في لعبة التعايش مع «حزب الله».
أذكر حجم الإحباط من تصريحات «مستقبلية» حول حماية السلم الأهلي، وما شابهها في الدقائق الأولى التي تلت الحكم على سليم عياش في لاهاي. وعياش بحسب «بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية» هو قيادي في «حزب الله»، و«الناشط البارز في الوحدة 121 التابعة لـ(حزب الله)، وهي فرقة اغتيالات تتلقى أوامرها مباشرة من زعيم الحزب حسن نصر الله».
بعد انقلاب 7 مايو، ثم الانقلاب على حكومة الحريري وحقه الدستوري بتشكيل حكومة رئيساً لأغلبية برلمانية لا تشوبها شائبة، كانت محطة صدور الحكم فرصة، لإعلان الخروج من الحياة السياسية اللبنانية المحتلة بقوة السلاح ومنطق الجريمة المنظمة، وإعلان العصيان السياسي، كمدخل نضالي مشرف ونبيل لإعادة صياغة قواعد العمل السياسي والوطني في لبنان.
كلها محطات تستلزم التعليق أو العزوف أو العصيان، دعك عن محطات أخرى، كالاغتيالات المركزية التي طالت النخاع الشوكي لسعد الحريري، ولا سيما اغتيالي اللواء وسام الحسن عام 2012 وبعده الدكتور محمد شطح عام 2013.
هذا زمن مضى، ولن يعود، والمقاطعة السياسية التي كان يمكن لها أن تكون جسراً نحو لبنان أفضل، أو صك براءة بالحد الأدنى من تهمة المبالغة في التعايش القسري مع سلاح الغدر، ليست اليوم سوى تعبير عن نوبة غضب أو إحباط أو آلية تصفية حسابات تنتمي إلى زمن آخر.
إذا كان من مقاطعة يجدر رصدها، فهي المقاطعة الشيعية الصامتة التي تقلق «حزب الله» وتدفعه إلى رفع درجة الاستنفار الانتخابي إلى أعلى مستوياته. يتضح من تصريحات كبار مسؤولي «حزب الله» ومن عدد من الفيديوهات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماع، وما تليها من محاولات حصار لعائلات أصحابها، أن قلق «حزب الله» من سيناريو عدم الإقبال كبير. ولا يمتلك الاعتراض الشيعي، أمام سطوة السلاح، رفاهية الاعتراض الفاعل والعلني. كما في إيران وانتخاباتها الأخيرة، سيكون تدني نسبة المشاركة هو الرقم الأبرز الذي به تقاس حصانة مشروع ميليشيا «حزب الله».
بين ضجيج المقاطعة السنية الواقعة خارج الزمن، وصمت المقاطعة الشيعية، الذي يندرج في زمن شيعي جديد من إيران إلى العراق إلى لبنان، ثمة ملمح آخر، هو التنافس المسيحي المسيحي، الذي لا يزال وحده يعتبر العلامة الأخيرة على بقايا الديمقراطية اللبنانية؛ حيث الانتخابات حقيقية والمشروعات واضحة والصراع يغري بالمتابعة والانتظار.