بقلم : د.مصطفى علوش
«مُرّ الكلام زَي الحسام...
يقطع مكان ما يمُر
أما المديح سهل ومريح...
يخدع لكن بيضُر
والكلمة دين من غير إيدين..
بس الوفا عالـ الحُر»
(أحمد فؤاد نجم)
ليس عندي أدنى شك في أنّ من يعدّون خطابات نصرالله من فرع «جهاد الإعلام الحربي» أخذوا دروساً مكثفة في فن التضليل واللعب على الغرائز والهواجس، الى درجة أنه لو عاد غوبلز من قبره لتعلّم منهم كثيراً ممّا فاته في أيام سيّده ومرشده الأعلى هتلر. لكنّ المؤكد أن مجاهدي هذا الفرع الناجح هم تلامذة نجباء للخليفة معاوية بن أبي سفيان في المحافظة على شعرته الشهيرة مع ما يرونه مفيداً لعقيدتهم، بعدما تعلموا كثيراً من ابنه يزيد في التخلّص من كل ما يعوق طريقهم من شخصيات وبَشر وشعوب.
ففي حين جَرّد يزيد حملة بالسيوف على سيّدنا الحسين، في قصة ما زالت تُعاد على المشاهدين كل سنة ما بين سيل الدموع وسيل الدماء، فإنّ جماعة الحزب يجرّدون حملات الاغتيالات بالمتفجرات والصواريخ وكواتم الصوت.
لكن، ما لي أنا وهذا الاسترسال في المقدمات المثيرة للحواس، رغم أنّ كل من يهتمّون بأمري يصرّون علي أن أخفف من لهجتي خوفاً على حياتي من «غدرهم». لكن الكلام كان دائماً يسبقني بمُرّه وحلوه، ولم أجد غير مرّ الكلام للحديث عن حقيقة هذا الكيان الذي يدعونه «حزب الله».
في خطاب نصرالله الأخير، ركّز على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى، وعلى رغم من أنّ كثيرين توقعوا أنه سيكيل مقامات الهجاء لفرنسا ورئيسها لتَجرّوئه على الكلام الخفيف المرورة بتساؤله البريء عن دور الحزب، مخيّراً إيّاه بين أن يكون ميليشيا عابرة للحدود، أو أن يكون حزباً سياسياً لبنانياً، فإننا نعرف الحقيقة ونعرف أن الحزب لا علاقة له بمنطق الأحزاب السياسية، فهو فيلق عسكري مفصول إلى لبنان من الحرس الثوري الإيراني، ومنه ينطلق في مهماته الخاصة عبر الحدود براً وبحراً وجواً، بحسب حاجات القيادة في طهران.
أمّا الجزء المتعلق بالسياسة في لبنان فهو مجرد تفصيل تافه بالنسبة الى مشروع ولاية الفقيه الذي يسعى لضَم العالم بأجمعه تحت رايته. ومن له ذاكرة حاضرة يتذكر خطاب نصرالله عند غزوة سوريا بقوله إنه لا يريد حكم لبنان لأنّ قدراته تجعل منه حاكماً على مساحات «مئات المرّات أكبر من لبنان». لكنه رغم استكباره، اكتفى في خطابه بتوجيه لوم وعتاب الى ماكرون، محذّراً إيّاه من الأميركيين والسعوديين ورؤساء الوزراء السابقين كونهم جميعاً يتآمرون على مبادرته، وشجّعه على المضي بها، لكن بشروط إيران وحزبها.
والنقطة الثانية هي توجيه اللوم نحو رباعي رؤساء الوزراء السابقين، ولكن لم يكن المقصود بالحديث هو الرئيس الفرنسي، فهو يعلم بالضبط مَن سَهّل مبادرته ومَن أعاقها، لكنّ نصرالله أراد أن يقول إنه ليس للمهزوم مكان في أي قرار. ما يعنيه هو أنه اعتبر أن هذا المكوّن المذهبي اللبناني، كما الإقليمي بأجمعه، مهزوم، وما عليه إلّا قبول شروط الهزيمة بإقصائه عن القرار والرضوخ لسلطة القوي القادر على القتل والغزو والاجتياح، وما على الرؤساء المهزومين إلّا النظر إلى 14 شباط 2005 وما حلّ بعدها من إثباتات، لِيَعوا ضعفهم أمام جبروته وتجبّره واستكباره، وهم المستضعفون. لكن للقصة بُعداً آخر أيضاً، فهو يعلن أمام جمهوره، المتملمِل من ضرب المبادرة الفرنسية، أنّ القضية مرتبطة بانتقام تاريخي عمره 13 قرناً من أحفاد يزيد، ومنعهم من الوجود في أي قرار. وما على جمهور الحزب المكلوم والمتعب، مثله مثل أحفاد يزيد، إلّا الصبر، لأنّ القضية هي مسألة كرامة وانتقام.
والنقطة الثالثة، هي العودة إلى دعم موقف رئيس الجمهورية المتهالك، على وقع التدهور في كل المعايير الوطنية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، على رغم من أنه الرئيس القوي الذي وَعدَ باستعادة حقوق المسيحيين. عادَ نصرالله، وهو الذي اتهم من أعدّوا «اتفاق الطائف» عام 1989 بأنهم يُثبّتون الهيمنة المارونية على لبنان، وأنّ حركة العماد عون هي حركة إسرائيلية في المنطقة الشرقية يوم «حرب التحرير»، ليقول إنّ رؤساء الوزراء السُنّة يعتدون على صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي! ومن ثم استرسَل، وفي شكل مدروس، في الحديث عن الخلايا النائمة والتي تمّ تفعيلها، ومَن يدري من هو فعلاً مُفَعِّلها، فمَن استدرجَ «أبو عدس» قادرٌ حتماً على استدراج حتى «أبو مالك التلي»، وكل دواعش الأرض الذين أنقذهم في معركة «فجر الجرود» في حافلات مكيّفة. لكنّ الرسالة هي مجدداً موجّهة هنا نحو مسيحيي لبنان الذي ضاق ذرعهم بوعوده غير الصادقة، وبوعود من أوهمهم بأنه أنقذهم من خلال تفاهم مار مخايل. يريد أن يذكّرهم بأنه إما أن يخضعوا له، أو أن التطرف سيدخل إلى بيوتهم.
لا يهمّ اليوم، بعد انفجار المرفأ كيف ستمر خطابات الدعاية على مسامع اللبنانيين، ولستُ متأكداً إن كانت هذه الخطابات ستغيّر في مزاج البعض سلباً أم إيجاباً بحسب ما يريده نصرالله، لكنّ الجميع أصبحوا ينتظرون الأسوأ كل يوم، ولن تنفع جولات الإعلام الاستعراضية على مواقع صَوّبَ عليها نتنياهو، فمعظمنا يعلم اليوم بحسب التجربة أنّ الاثنان يمارسان التقية، نصرالله ونتنياهو.