بقلم : د.مصطفى علوش
«حتَّى متى لا نرَى عدلًا نُسَرُّ به ولا نرَى لِوُلاةِ الحقِّ أعوانا مستمسكين بحقٍّ قائمين به إذا تلَّون أهلُ الجوْرِ ألوانا يا للرجالِ لدَاءٍ لا دواءَ له وقائدٍ ذي عمَى يقتادُ عُميانا» الزمخشري
في كتاب «جون رولز» الذي شكّل نقلة نوعية في الفكر الليبرالي الفقير في البحث الفلسفي، على الأقل في القرن العشرين، طرح مبدأ «العدالة كإنصاف» في كتابه سنة 1968. في هذا البحث اعتبر رولز أنّ العدالة في أعلى مستوياتها لا تتجلّى بمعاملة الجميع بالسوية، أي بحصص متساوية، بل بتوجيه المساعدة إلى من هم أكثر حاجة لها. هذا برأي رولز السبيل الأفضل لتأمين مجتمع عادل ومستقر. فتساوي الفرص لا يمكن أن يستند فقط إلى أن يُعطى الجميع بالتساوي بغض النظر عن الحاجات، بل أنّ مدّ اليد يجب أن يكون متناسباً مع الحاجات. هذا ما يمكن أن يعطي فرصة لمن لا يتمتع بالفرص من خلال الحظ، من عائلة وبيئة، لكي يلحق بالآخرين، ومن هنا يمكن للجهد الإضافي والحنكة والقدرة الكامنة أن تميّز البعض عن البعض الآخر.
بالنسبة لرولز، هذا التمييز للفئات الأقل قدرة، يعطي فرصة للمجتمع للاستفادة من قاعدة واسعة من الجهود والإبداع، بدل أن تبقى الأمور محصورة ومحتكرة من فئة محدودة، كانت محظوظة بوجودها في بيئة أعطتها الفرصة واسعة لتحقيق ذاتها دون الآخرين. لكن الأهم، هو أنّ الإنصاف بهذه الحال سيخفف من تهميش فئات واسعة من الناس ويضعها، على العكس، في دائرة الإنتاج والتفاعل الإيجابي مع المجتمع. هذا ما يجعل المجتمعات أكثر استقراراً وانتاجية، ويسمح بالتعاون والنمو، بدل الشعور بالانعزال والعجز، وبالتالي النقمة واحتمال الجنوح والغضب واللجوء إلى العنف.
لماذا هذا الكلام الآن، وهو ربما استكمال لمقالة سابقة حول فشل تجربتنا الوطنية؟ القضية هي أنّ منطق وجود شعوب متعددة محشورة في بقعة صغيرة من الأرض، مجبرة على العيش معاً، هي ما حكمت لبنان منذ تأسيسه، وما زالت حتى اليوم سمة منطق القبائل الطائفية المحشورة في لبنان. هذا المنطق دفع وسمح بأن يتمّ إهمال مناطق واسعة في الأطراف في ما مضى، وأسس لحفلات الرعب المتكررة التي ضربت البلد في حروبه الأهلية، وفي الانهيار السريع الحاصل اليوم. وكالعادة، ففي كل حفلة كارثية تحلّ علينا، تعود نغمة الإنفصال لتطرب أسماع الكثيرين منا. وهذا المنطق ليس محصوراً بالعموم، بل هو أيضاً حديث النخب التي تعلم أصلاً أنّ جوهر وجود لبنان هو التعدّد، ومن دون هذا التعدّد يفقد البلد كل شيء ثمين وجميل، هو نعمة العيش في حيز لا تحكمه أو تتحكّم به مفاهيم واحدة عن العيش والاجتماع، فيضيق بعده الأفق، ويندر الإبداع، وينصاع الناس ويُقهرون تحت نير ديكتاتورية الأكثرية.
أحد وجوه النزعة للانفصال هو طرح اللامركزية الموسعة، وهي المذكورة في الدستور، والهدف منها أساساً هو تسهيل شؤون الناس، وإعطاء فرصة للسلطات المحلية بتلبية حاجات المواطنين الملحة اليومية، بدل الدخول في الروتين الإداري الطويل الذي يدعو لليأس. كما أنّ هذا الأمر قد يضع المواطنين أمام مسؤوليات مباشرة في رعاية الملكيات العامة، والسعي الى تحسين هذا الوضع، على أساس أنّها تصبح أكثر خصوصية في العلاقة مع الفرد، بدل ضياع المسؤولية في مكان ما في العاصمة مثلاً أو مراكز الحكم.
لكن الطرح اليوم يتخطّى كل تلك الإيجابيات إلى مسألة أنّ بعضنا لم يعد يتحمّل البعض الآخر، ويريد أن يحصل على بعض الاستقلال في خياراته وقراراته، ولم يعد يريد أن يتحمّل أكلاف الآخر في المصالح المشتركة والخدمات العامة. يعني الكهرباء والصحة والتعليم والإنماء، وإلى ما هنالك من أمور مرتبطة بقضايا إجتماعية وأمنية وسياسية وديبلوماسية.
من هنا، فالبعض أيضاً يعتبر أنّ تلك اللامركزية الموسعة، ستتوسع أكثر، وبسرعة، لتتحول إلى فيدرالية مناطقية، خصوصاً بعد أن يحدث الترانسفير البطيء أو السريع لأقليات محشورة في مناطق «الأغيار».
لكن حتى هذه الفيدرالية لن تكون كافية لتحقيق المأمول عند البعض. فالفيدرالية تقضي بأن يكون هناك قرار دفاعي موحّد، كما علاقات خارجية منسقة، لا تتعارض أو تضرّ بمصالح الشركاء في الفيدرالية. ومن هنا، فإنّ طرح الحياد، الإيجابي والفاعل، أم السلبي، سيحتاج الى تفاهم على المستوى الفيدرالي. وبالتالي، فإنّ رفض البعض مبدأ الحياد، أو رفض توحيد القرار العسكري، دفاعاً أم هجوماً، سيؤدي ذلك، إما إلى صدام، أو المزيد من الانفصال، أي التقسيم.
لا شك أنّ هذا الكلام قد لا يقبله كثيرون، والبعض يظنه مجرد نوع من الخيال المبالغ فيه، لكنني أرى بأنّ معظم اللبنانيين يئسوا من تجربة التعددية الفاشلة بين قبائل غير جاهزة لتصنع وطناً أو أمّة، ولا يبدو أنّ سبيل الخروج من الأزمة المدمّرة اليوم إلّا بخيارات قد تسبقها، أو تدفع لها أحداث شديدة الخطورة والدموية. وما أراه، هو أنّ بعض القوى السياسية اليوم، تدفع بسرعة إلى تلك الأمور، بالرغم من كل الأخطار الكامنة والمؤكّدة على هذا الطريق. منذ أيام خرج رئيس تيار رئيس الجمهورية بطرح مؤتمر تأسيسي لتأمين الاستقرار، وحتى نتفادى التداعيات الدموية للتغيير، لم لا يذهب لنقاش الأمر في مجلس النواب ويطرح ما يراه مناسباً، لربما تمكنا عندها من العبور إلى الخيارات المتاحة من دون صراع؟