(عن كلام قاسم قصير الأخير حول «حزب الله»)
«ولو شاء ربّك لآمَن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (99، يونس)
قد يكون من قبيل المبالغة الشعرية القول إنّ الإنسان ولد حراً، فالواقع هو أنّ الإنسان ولد أسيراً لواقعين حَتميين عشوائيين: الأول هو تكوينه الوراثي الجيني، والثاني هو الظروف المحيطة بوجوده والمجتمع الذي ينشأ فيه. لكنّ الإنسان يسعى منذ ولادته إلى المقدار الأكبر من الحرية، وما يحققه خلال حياته ما هو سوى نتاج لجدلية مستمرة بين المعطيات الوراثية الشخصية والظروف الطبيعية والاجتماعية (الطبيعة والتطبّع)، وعلى هذا الأساس فإنّ عشوائية الأحتمالات تمنع إسقاط تجربة فرد على آخر، ما يؤكد فَرادة تجربة كل إنسان بتفاصيلها الدقيقة، وإن كانت قد تشابَهت أحياناً في المنحى العام.
في المحصّلة العامة، فإنه الواضح هو أنّ سعي الافراد الحثيث نحو مقدار أكبر من الحرية كان أساس التقدم المضطرد للبشرية نحو النمو والرخاء الاجتماعي وتخفيف عِبْأي الطبيعة والتطبّع على واقع الفرد.
على هذا الأساس فإنّ للفرد حَق في فرادته ضمن التنوع، وبالتالي حق الحياة والقول والفكر كما يشاء لا كما يُفرض عليه، وهذا الحق يقف دائماً أمام حدود حرية الفرد الآخر، وهذا يفرض على الفرد قبول الاختلاف كمظهر للتنوّع لا كسبب للتناحر والفرقة والنزاع. حرية الإنسان هي له كفرد لا كمجموعة، وهذا الحق يؤكد ألّا يكون الإنسان الفرد أداة وضحية لمصطلح «مصلحة الأمة» لأنّ صحة الأمة الحقيقية هي بصحة أفرادها وخيارهم الحر، فالحرية هي مسألة فردية أمّا ما يسمّى حرية المجموعة فلم يكن إلّا أداة للسيطرة وقمع حرية الفرد.
نحن شعوب نعيش على وَهم الإجماع وكأنه الفضيلة الكبرى في الشأن العام، فهناك من يؤكد أنّ إجماع الأمّة على أمر، حتى وإن كان خطأ، أفضل من الصَح المختلف عليه. فَتاوى المُفتين، من زمنيين وروحيين في دنيانا وفي ما مضى، تحرّم كلها الخروج على الإجماع، لا بل تُخوّنه وتضع المخالف في خانة المرض الخبيث، أو المرض المعدي لأنه قادر على الانتشار بسرعة إن لم تتم محاصرته وعزل المصاب به، وحتى إحراقه بكامله حتى لا يبقى له أثر.
من هنا، فقد تم اتهام المُجتهدين المخالفين للاجتهاد الرسمي الذي يُجمع عليه أهل السلطة بأنهم مهرطقون وَجُب القضاء عليهم وخنقهم في مهدهم حتى لا يضرّوا بالاستقرار المجتمعي، فتضعف الجماعة في مواجهة الأعداء. ونحن نعلم أنّ مجتهدي السلطة هم دائماً أتباع الحاكم، ومن المنطقي أن تصدر الفتاوى كما يشاء الحاكم لا كما يشاء الحق أو الضمير.
التاريخ القديم حافل بالأمثلة التي استقوى بها الإجماع والسلطة على الرأي الحر. فآريوس، العالِم الناسك المجتهد، صار مُهرطقاً بعد إجماع الأساقفة في مجمع نيقيا سنة 325 تحت لواء قسطنتين. كذلك حصل للأسقف الجليل الشهيد نسطوريوس بعد مواجهته إجماع الأساقفة في خلقيدونيا سنة 451. وهكذا سمّيت الفرق الإسلامية المتعددة عبر التاريخ كمهرطقة، بغضّ النظر عن الصح والغلط، منذ دخلت الفلسفة على عالم المسلمين أيام الخليفة المأمون. فَتاوى التكفير معروفة في الأديان، وكلها مرتبط برغبات السلطة ليس إلّا.
لكن ما هو واقع في الأديان يصح أيضاً في السياسة، فكل ذي رأي مخالف هو مهرطِق يُضعف الأمة في مواجهة الأعداء، ويصبح صاحب الرأي المخالف خائناً، حتى وإن كان على حق، لمجرد أنه يخالف الإجماع.
لكنّ الحقيقة هي أنه لولا جرأة البعض في عدم الانقياد في تيار الجموع، ورفضهم اتّباع منطق القطيع، لَما حصل تقدم في المجتمعات، ولكانت البشرية بقيت تعيش على اللمامة والصيد. فتخَيّلوا كيف كان العالم اليوم لولا مخالفة كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن وديكارت وسبينوزا للإجماع الأعمى على مرجعية الكنيسة كرأي لا نقاش فيه؟ غاليليو خاف من أن يحرق كالساحرات لو عانَد في رأيه، فتراجع وسكت، لكنه أضاء الطريق أمام مخالفين آخرين، بعضهم استشهد، وآخرون حملوا العالم إلى أفق جديد. هذا بالطبع هو القرار الصعب والمضني، والخطر في معظم الأحيان، بالسير عكس تيار الأكثرية، بدل سهولة أن تقرر الجموع عن الفرد ماذا يريد وكيف يعيش، وحتى كيف يفكر حتى لا يخون لسانه غريزة البقاء عنده.
إحترام ورعاية الاختلاف في الرأي، كما السّعي الى تحقيق ما في الرأي من أفكار، هما جوهرا النظام الديموقراطي. والبعض يظن هنا أن الديموقراطية تعني حكم الأكثرية، وهذا صحيح بعض الشيء، ففي النهاية على الأكثرية أن تقرر بدلاً من الوقوع في الحيرة في القرار. لكن كلما بقي هناك من يخالف ويعارض فإنّ السلطة تبقى ماشية على رؤوس الأصابع مخافة الشَطط أو الفشل. فإن نجحت استمرت، وإن فشلت يبقى الرأي المخالف ليأخذ مكانه في القيادة بدل الفراغ القاتل الذي يحكم عادة بعد سقوط المنظومات التي لا تحمل نعمة الاختلاف، سوريا وليبيا مثلاً.
على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ فالمنظومة التي أعربَ قاسم قصير عن اختلافه معها، رغم اعترافه بفضلها، هي منظومة لا تتحمل أي اختلاف! فإمّا التسليم الكامل والشامل، وإمّا الخيانة والعمالة للغير، أو ربما للسفارة كما اتهم آخرون قبله. وبصراحة، فهو مخطئ، رغم خبرته، في تحليله لقدرة «حزب الله» على تغيير توجهاته الأساسية في خدمة مشروع ولاية الفقيه. فأساس إنشاء الحزب صادَفَ أنه في لبنان، لكنّ المشروع الأم هو حتماً في إيران، والبيان التأسيسي للحزب حول «من نحن وما هي هويتنا؟» يجيب (أنظر كتاب «حزب الله» نظرة مغايرة، صفحة 226) «إننا أبناء أمة «حزب الله» التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد دولة الإسلام المركزية في العالم... تلتزم بأوامر قيادة واحدة عادلة حكيمة تتمثّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضراً بالإمام المسدد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام الله ظله، مفجّر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة».
كما أنّ السيد إبراهيم الأمين أكد ذلك بقوله «نحن لا نقول إننا جزء من إيران، فنحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران». (راجع جريدة النهار 5-3-1987). هذا بالطبع غيض من فيض، فكلام حسن نصرالله في خطابات عدة أكد فيها على انّ كل مصادر ماله وسلاحه هي إيران. لذلك، فإنه قد يكون سوء الفهم أو سوء التقدير أو سوء الحظ ما دفعَ الأستاذ قاسم قصير الى التعبير عن رأيه المخالف، ومع أنني أحيّيه لكلامه، لكنني لا أريد الإمعان في توريطه بمديحي. وبالطبع فقد اضطر، كغيره، للاعتذار بسرعة تحت إرهاب الجماعة، وهناك مَن انبرى ليتهمه بقصور الفهم في الاستراتيجيا، داعياً جميع اللبنانيين الى الالتحاق بركاب الحزب.
ما هو منطقي هو أنّ عودة «حزب الله» إلى لبنان تعني نهايته المؤكدة، لأنه عندها سيفقد الدور الذي وجِد من أجله بحسب عقيدته السياسية الإيمانية، وسيضطرّ عندها الى البحث عن عقيدة ثانية كالتي حوّلت أحزاب العالم الشيوعية، أيام سطوة أفكار ماركس ولينين، مجرّد مجموعات هائمة بين فوضوية الأفكار والشعبوية وتلك الحالمة بعودة ستالين أو مثاله.