الحقيقة الأكيدة الوحيدة في محنة سوريا المستمرة منذ 2011، بل ربما منذ إسقاط ورقة رئاسة أمين الحافظ في بواكير عام 1966، هو أن الثابت الوحيد هو التغير.
«سوريا الكبرى»، وليس فقط كيان سوريا المستقلة عام 1943، عرفت التنوّع منذ فجر التاريخ المكتوب. وكما صار التنوع جزءاً لا يتجزأ من هويتها، صارت الاجتياحات والاحتلالات وعمليات الضم لإمبراطوريات شرقية وغربية من كل الهويات والمعتقدات والأحجام. وحقاً، فإن قلة من مناطق «العالم القديم» شهدت حركة مستمرة، وتعاقب ممالك وإمبراطوريات ودول كحال ذلك «الهلال الخصيب» الممتد من غرب جبال زاغروس في الشرق إلى سواحل شرق البحر المتوسط غرباً، وأعلاه الشمال السوري من جبال الهكارية إلى جبال طوروس.
القوميات ظاهرة حديثة نسبياً في حياة الشعوب، بل ثمة خلاف في تعريف القومية حتى اللحظة، ولا سيما لدى الخلط بينها وبين عبارات كالوطن والحضارة أو ربطها بالأديان واللغات. حتى في الغرب، هناك مفردات كثيرة تعني أشياء مختلفة... تبعاً لنسبتها لحالات وظواهر سياسية متعددة.
وهنا، في خضم هذا الارتباك تحدث تطوّرات، كتلك التي نرى اليوم في المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، شرق نهر الفرات، تنقسم حيالها الاجتهادات... بصرف النظر عن المعايير الأخلاقية والإنسانية.
لا جديد إطلاقاً في أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يحمل قناعات عقائدية وقومية تحفّزه على استعادة ما كان حتى 100 سنة خلت مناطق تابعة لـ«دولة الخلافة العثمانية». والحال، أن إردوغان، لا يعتبر في قرارة نفسه أنه وريث مصطفى كمال «أتاتورك» بقدر ما هو مؤتمن على الشرعية الدينية، والمرجعية السنّية خاصة، في تاريخ تركيا العثماني. وهذا المزيج بين الحنين إلى الحلم الإمبراطوري التركي العثماني والمرجعية العليا للسنّة الذين يشكّلون ما بين 75 في المائة و80 في المائة من المسلمين، يعطيه الحق - في رأيه - بالتدخل حيث يرى له مصلحة في التدخل.
من ناحية أخرى، رغم أن غالبية الأكراد العظمى من أهل السنّة والجماعة، وبالتالي، يفترض أنهم في معسكر واحد مع أنقرة، فإن الشق القومي من المعادلة ينسف هذا الاعتبار، ويحوّل الحليف النظري إلى خصم واقعي. وعند هذه المحطة، لا بد من تكرار القول إن إحدى نقاط التلاقي والتفاهم القليلة بين «العدوين التاريخيين»، الأتراك والإيرانيين، هي منع نشوء كيان كردي كبير يهدّد الكيانين الكبيرين التعدّديين الحاليين اللذين يسيطر عليهما الشعبان التركي والإيراني. والحق، أن الأكراد - أو على الأقل، أهل الدراية منهم - يدركون هذه الحقيقة، ولذا تصرفوا دائماً تحت سقف الواقعية والنَفَس الطويل بانتظار الظرف السياسي المؤاتي.
العرب، أيضاً، كانت لهم غالباً مواقف ملتبسة من الهوية الكردية القومية وحلم «الوطن الكردي». غير أن الكيانات العربية التي عاش فيها الأكراد، وما زالوا يعيشون، كانت إما إمبراطوريات تعدّدية (الخلافات الأموية والعباسية والفاطمية) أو أصبحت أجزاء من إمبراطوريات تعدّدية كالدولتين العثمانية والصفوية، وهو ما حال دون تبلوُر تنافر إلغائي بين العرب والكرد، ربما حتى النصف الثاني من القرن الـ20... مع تصاعد مفهوم القومية العربية المتردّد في تفهّم حساسيات الأقليات غير العربية. اليوم، بجانب التحرّك التركي الهادف إلى السيطرة على الشريط الحدودي ذي الغالبية الكردية داخل سوريا، ثمة واقع هيمنة إيرانية صارخة في العراق وسوريا ولبنان وأجزاء من فلسطين واليمن. وبعيداً عن الكلام الاستهلاكي الفارغ، فإن إيران مرتاحة جداً للعمليات العسكرية التركية ضد الجيوب الكردية في شمال سوريا وشمالي شرقها، وذلك لأنها: أولاً صاحبة مشروع... وثانياً، لأن لديها حسابات تحسب معها كلفة مناوراتها، فتعرف أين مصلحتها.
هذه الميزة المزدوجة عند الإيرانيين مُفتقَدة عند العرب، حيث لا يوجد مشروع واحد ولا حسابات واحدة. ومع أن العمليات الجارية الآن في الشمال تجري - نظرياً ورسمياً على الأقل - على أرض عربية، فلا تبدو هناك ملامح مقاربة استراتيجية عربية لهذه العمليات... فتقيّم جوهرها، وأبعادها، ومآلاتها المحتملة، بعيداً عن الحسابات الضيقة والكيدية المتبادلة.
لقد أخطأ بعض إخوتنا الأكراد السوريين، بُعيد تفجّر الانتفاضة السورية، عندما تعجّلوا فصل مسارهم وأولوياتهم عن باقي مكوّنات الانتفاضة، طبعاً، قبل أن يقدم آخرون على تلغيمها وتدميرها من الداخل. وخرج نفرٌ من متطرّفيهم ومشبوهيهم علانية للكلام عن مشروع دولة «روج آفا» الكردية بشمال شرقي سوريا، ورسموا خريطتها وغيروا أسماء مدنها، ونشطوا لربطها بـ«جيب» عفرين، عبر مناطق شمال الرقة العربية. وكل هذا، بينما كانت هناك قوى كردية وطنية وعاقلة مقتنعة بأن الغاية الأسمى هي سوريا سيدة مستقلة لا طائفية ولا عرقية تتسع بعدالة وتعايش لجميع مكوّنات الشعب السوري.
في المقابل، انتقلت القيادتان في تركيا وإيران خلال سنوات الانتفاضة التسع من رعاية الجانبين المتناحرين، إلى التفاهم الضمني والتنسيق مع روسيا. إيران التي اتهمت تركيا بدعم التكفيريين... انتهت شريكاً لها في صفقة «مسار آستانة»، وتركيا التي طالما هددت بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء ما يفعله نظام الأسد... تناست دور ميليشيات طهران الطائفية ودعم موسكو العسكري، بل وملايين اللاجئين السوريين، من أجل التحالف مع مَن تسبب في تهجيرهم.
وأخيراً، هناك الغائب الحاضر الأكبر، الولايات المتحدة.
واشنطن كانت لسنوات تعتبر طهران و«تابعها» نظام دمشق، نظامين داعمين للإرهاب. بيد أنها، مع هذا، بحجة «داعش»، تغاضت عن التمدد الإيراني عبر المنطقة في عهد باراك أوباما، وها هي رغم تصدّي الأكراد لـ«داعش» بالأمس، تتركهم اليوم... بينما تصمت عن بقاء النظام ومعظم أراضيه بحماية موسكو وطهران.
الكل، كباراً وصغاراً، لديهم مصالح واعتبارات... في حين يقتصر دورنا نحن - العرب - على ردّات الفعل.
هذه مسألة غير مطمئنة للمستقبل. ومع أن القوى الإقليمية الثلاث، إسرائيل وإيران وتركيا، تعاني من أزمات حقيقية، فإنها بفضل القرار الموحّد، والحدّ الأدنى من التفاهم الداخلي، تعمل على «تصدير» أزماتها إلى الخارج... رغم هذه الأزمات، بل ربما بسبب هذه الأزمات!
للأسف الشديد، الوضع العربي مختلف، والقراءة العربية لمستقبل المنطقة تبقى قاصرة ومقصّرة.