صورة بألف كلمة، كانت تلك التي أمسك فيها الرئيس سعد الحريري بورقة تختزل حالة العبث التي تعيشها الحياة السياسية في لبنان، والتي باتت جزءاً من معركة مملة حتى القرف، لا أحد يدفع ثمنها سوى الشعب اللبناني.
في الظاهر، يراد جعل المعركة القائمة على حلبة تأليف الحكومة، نزاعاً على «صلاحيات» و»حقوق دستورية» بين رئيسين، كلاهما يقولان إنّهما على حق؟!
أما في الواقع، فإنّ ما يجري ليس سوى لهاث، غريب ولا سابق له، على محاصصة مقيتة، بين رئيس جمهورية متمسّك بـ»الثلث المعطل» لاعتبارات متصلة بما يسمّيها «حقوق المسيحيين»، وبين رئيس حكومة مكلّف يحاجج برفض هذا «الثلث المعطل» لاعتبارات متصلة بـ»المبادرة الفرنسية»، التي أضحت كتاباً منزلاً، باتت معه مفاتيح الحل معلّقة على عناوين جامدة، ابرزها على الإطلاق «حكومة اختصاصيين لا حزبيين».
قطع عون والحريري كل الشعرات الرابطة بينهما، لم يعد ثمة مجال للمساكنة بينهما على الإطلاق، ومن هنا، قرّرا أن يمضيا في معركة كسر عظم سياسية، حتى يكسر احدهما الآخر. وبالتأكيد هي معركة لن يخرج منها أحد منتصراً، بل كل أطرافها سيخرجون مهشّمين، وقبل كل هؤلاء جميعاً، سيكون البلد أكثر المهشّمين والأكثر هشاشة.
بالتأكيد أنّ لرئيس الجمهورية جمهوره الذي يدعمه ويقف خلفه ويصفّق لموقفه، كحريص على الصلاحيات ومدافع عن حقوق المسيحيين، ورافض لمنطق تهميشهم ومصادرة حضورهم وتقزيم دورهم في المعادلة السياسية القائمة.
وبالتأكيد أيضاً، انّ للرئيس المكلّف جمهوره العريض الذي يستند اليه، ويشدّ على يده، كأمين على موقع رئاسة الحكومة، وحريص على صلاحياتها، ورافض لأي محاولة بالعودة بعقارب الزمن السياسي الى ما قبل الطائف، ومحاولة فرض أعراف جديدة، تنسف الأساس الذي بُني عليه الطائف. وتسليم البلد الى فريق سياسي يحكمه وفق مشيئته، وبالشكل الذي يلبّي فيه مصالحه على حساب مصلحة البلد.
ولكن في مقابل ذلك، ثمة منطق آخر خارج سرب المصفقين لهذا الرئيس او ذاك، يؤكّد أنّه بعد خطاب الرابع عشر من شباط، للرئيس المكلّف، وما تلاه من ردود مضادة، وردود على الردود، في حفلة الزجل السياسي المملة، لم يعد في الإمكان الّا تسمية الأشياء بمسمياتها، بعيداً من «الرتوشات» التجميلية، التي بات من الصعب استخدامها لتجميل الصورة الماثلة على حلبة التأليف.
يؤكّد اصحاب هذا المنطق، انّ المسألة هنا ليست مسألة حقوق مسيحيين، ولا تتصل بتلك الحقوق من قريب او بعيد. وبالتالي، فإنّ رئيس الجمهورية على حلبة التأليف، ليس مدافعاً عن هذه الحقوق بقدر ما هو مدافع عن نفوذ مُستنزف لفريقه الحزبي، وساعٍ بأي ثمن، الى تحصين طموحات رئاسية باتت معروفة من الجميع، ومرتبطة بصهره جبران باسيل.
والأمر نفسه بالنسبة الى الرئيس المكلّف، الذي من المؤكّد أنّ المسألة تتجاوز تأكيد حرصه على وقف الانهيار وإعادة الإعمار وتطبيق الشعارات التي حملها خطابه في ذكرى استشهاد والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الى مسألة أبعد، اساسها الثأر والإنتقام من سلسلة الطعنات التي تعرّض لها، على يد الحليف والخصم على حدّ سواء، في الداخل كما في الخارج، منذ ارتضى بالتسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون رئيساً للجمهورية.
بهذا المعنى، لم يكن مفاجئاً أنّ خطاب الحريري لم يحمل أي جديد في امكانية حلّ الازمة السياسية، لا سيما أنّ أفق الرابع عشر من شباط لم يلح فيه ما يوحي بتغييرٍ حقيقيّ في المعادلة الداخلية، المختزلة بحرب «اللاءات» التي يطرحها كلا الفريقين المتنازعيْن على خطّ تأليف الحكومة، أو المعادلة الخارجية التي تنتظر اختمار السياسات الاقليمية لإدارة جو بايدن، ولا سيما ما يتعلق منها بالتسوية مع إيران.
بذلك، كان ممكناً قراءة خطاب الحريري، حتى قبل أن يتلوه، إن في تفنيد كلّ الجهود التي قام بها منذ تكليفه لتأليف الحكومة، أو في كشف العراقيل التي تحول دون تشكيل «حكومة المهمة الإنقاذية»، وأخيراً تجديد التأكيد على أنّ قواعد الاشتباك لم يطرأ عليها أي تعديل، برغم «الليونة» و»المرونة» اللتين لم يعد الحريري قادراً على تسويقهما في شارعه، على النحو الذي يحول دون امكانية تقديم «تنازلات تاريخيّة»، وهو ما أفضى عملياً الى حسم وجهة التأليف، بما يقطع الطريق على أية تأويلات: لا ثلث معطلاً… ونقطة على السطر!
ما سبق، أوجب على سعد الحريري أن يكشف النقاب عن لقاءات عملية التكليف مع رئيس الجمهورية، والتي دخلت نادي الأرقام القياسية، وفحواها أنّ «الثلث المعطل» الذي يصرّ عليه عون، قد بات اسماً على مسمّى في تعطيل عملية التأليف، ليس في سياق حماية حقوق المسيحيين، كما تزعم جوقة المستشارين الرئاسيين، وإنما من باب تعويم جبران باسيل رئاسياً، مع بدء العد العكسي لنهاية «العهد» في استحقاق العام 2022.
وانطلاقاً مما سبق أيضاً، لم تكن حفلة الردود والردود المضادة مفاجئة على الإطلاق، طالما أنّ كل الاجواء، حتى لحظة كتابة هذه السطور، تشي بأنّ الأزمة مستمرة وستتصاعد أكثر.
وبذلك، تكون لعبة تسريب الأسماء مجرد هجوم مضاد على عون، بعد لعبة تسريب الفيديو الشهير، لتكريس تهمة التعطيل ضدّه، وهو ما المح اليه الحريري قبل الخطاب، حين خرج من اللقاء الأخير مع رئيس الجمهورية ليعلن أن لا تقدّم على خط التأليف، وأنّ كل فريق يجب أن يتحمّل مسؤوليته.
من المؤكّد اذاً، أنّ المعركة العبثية مستمرة، ويمكن افتراض أنّ «التيار الوطني الحر» سيعمل، كعادته، على فتح جبهات جديدة فيها، تماماً مثلما سيفعل تيار «المستقبل»، في ظلّ تعطّل لغة الكلام، وثبوت الطلاق البائن بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، بما يعني مزيداً من التعطيل.
هذا الأمر قد يؤدي في لحظة من اللحظات الى ترجمة الانطباع السائد في الخارج، بأنّ الوضع اللبناني «حالة ميؤوس منها»، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام مروحة سيناريوهات، أدناها اعتماد ذلك الخارج، ولا سيما الفرنسيين، مقولة «حلّوا عنّا»، بما يعني التخلّي عن المبادرة، وبالتالي تسريع الانهيار. واقصاها، الذهاب نحو خيار «العقد السياسي الجديد»، الذي رفعه ايمانويل ماكرون في أول زيارة له الى بيروت بعد انفجار المرفأ، بكل ما يختزله هذا الشعار من تغيير جذري في بنية النظام اللبناني.
من الثابت انّ تغيير النظام ينطوي على الكثير من المخاطر، التي ربما يستشعرها الحريري أكثر من عون وفريقه، لاعتبارات عدة، وهو ما جعل خطاب الرابع عشر من شباط مدروساً على إيقاع الهواجس والتحدّيات التي يستشعر الحريري مكامن القوة والضعف فيها، وهو ما يمكن تلمّسه في ثلاثة عناوين عريضة: رفض الابتزاز العوني الذي من شأنه أن يهدّد كل ما سعى الحريري لترميمه في الشارع السنّي منذ التسوية الرئاسية.. ربط النزاع مع «الثنائي» بكل ما يجنّب الحريري الوقوع في فخ الفتنة بين الشارعين السنّي والشيعي.. واخيراً، التركيز على استعادة علاقات لبنان الخارجية، كترجمة لجولاته المكوكية الأخيرة على العواصم الاقليمية.
لكن الحريري يدرك أنّه امام خصم عنيد.. ما يعني أنّ امكانية حسم الصراع بالضربة القاضية مستحيل، وهو ما يجعل الحسم بالنقاط هو القاعدة في الحالة الراهنة. بذلك، فإنّ التسوية الجديدة باتت اكثر استحالة من أي وقت مضى، وخيار الاعتذار عن التكليف أكثر استحالة من التسوية نفسها، ما يعني أنّ تصريف الأعمال قد يستمر حتى نهاية عهد عون 2022…
ولكن السؤال الذي يُطرح في هذه الحالة: هل ستبقى هناك جمهورية وبلد حتى ذلك الوقت؟!