يوماً بعد آخر يسقط لبنان في التجاذبات السياسية في وقتٍ لم يعد الشارع قادراً على كتم بخار الغضب المتراكم في صدره. أمّا وأنّ الحال قد وصلت إلى هذا الدرك من الاستخفاف بمعاناة اللبنانيين وآلامهم، فإنه لم يعد مقبولاً إلّا ان تُسمّى الأسماء بتسمياتها، طالما أنّ المسلّات الحكومية باتت «تَنعر» المعطّلين من تحت آباطهم.
لم يعد ممكناً لأحد أن يقنع أبسط مواطن لبناني - إلّا أولئك الذين يتعايشون مع حالة الإنكار المرَضيّة - بأنّ بعض المستويات الرفيعة المعنية بتأليف الحكومة بريئة من دمه المسفوك على مذبح المحاصصة والطموحات الرئاسية التي تكاد تكرر، حرفيّاً، مأساة من عايَشَ طموحات مماثلة في فترات سابقة، جَرّت على البلاد جولتين من أشنع جولات الحرب الأهلية.
باتت «الطموحات» عبئاً على الجميع، يرزح تحته 80 في المئة من الشعب اللبناني الذي بات عند مستوى خط الفقر وما دونه، سواء عند الشريحة التي فجّرت غضبها في الشارع الأسبوع الماضي، والتي دخل على خطّها «مندسّون»، والتي قرر البعض «شَيطنتها»، بعدما رُميت مُكرهة لا مختارة في أتون الأجندات السياسية والعوز المعيشي والصحي. وهي أيضاً عبء على كل القوى السياسية، من الخصم الى الشريك، على النحو الذي يخاطر فيه بعض من هم في المواقع الرفيعة، بعزلةٍ شبيهة بعزلة خَبِر لبنان مثلها في زمن مضى.
بالأمس قالها الرئيس نبيه بري: «العائق أمام تشكيل الحكومة ليس من الخارج بل من عِنديّاتنا»، وهو ما يجعل كل كلام سابق عن تأثيرات إيجابية محتملة للانتخابات الاميركية في المبادرة الفرنسية، وبالتالي في الأزمة اللبنانية، هو مجرّد هروب إلى الأمام من المسؤولية الأخلاقية والسياسية في ظل ما آلَت إليه الأوضاع المزرية في بلد بات يعيش على «التسوّل».
باختصار، إنّ كلام رئيس مجلس النواب أمس جاء في سياق وضع النقاط على الحروف لجهة توصيف الأزمة الحكومية:
أولاً، أزمة التشكيل الحكومي هي مسألة داخلية ولا علاقة لها بما يحاول البعض الترويج له بشأن الضغوط الخارجية، التي تسير اليوم باتجاه تسهيل التأليف لا تعطيله، على النحو الذي تبيّن منذ أن أعاد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تحريك مبادرته غَداة اتصاله مع جو بايدن.
ثانياً، السبب الرئيسي في تعطيل التأليف الحكومي يتمثّل في المحاصصة التي باتت كل عقدها في قصر بعبدا، إن لجهة التمسّك بالحصة الرئاسية أو بالثلث المعطّل.
والأهم مما سبق، هو أنّ المحاصصة - بمسمياتها المختلفة - تكشف تماماً مَن يعرقل المبادرة الفرنسية، فمجرّد المطالبة بحصة رئاسية أو بثلث معطّل يعنيان من الناحية الفعلية التخلّي عن فكرة حكومة الاختصاصيين أو اللاحزبيين، التي التزمتها كل القوى السياسية في لقائها مع ماكرون في قصر الصنوبر.
العهد ومعه فريقه يعتبر انه يتعرّض لحملة تعطيل، وتضليل وتشويه لموقفه وتوجّهاته وإلصاق تهمة المطالبة بالثلث المعطّل به، فيما الحقيقة هي خلاف ذلك، وجوهرها إصرار رئيس الجمهورية على التزام الدستور، وممارسة صلاحياته وفق أحكامه. وبالتالي، إنّ حقّه، ليس فقط في تسمية وزراء في الحكومة، بل في إبداء رأيه في كل الوزراء.
الّا أنّ المثير للدهشة، على ما يقول خصوم العهد، هو أنّ الرئاسة الأولى وفريقها السياسي قد جعلت الثلث المعطّل معركتها، في وقت تبدو المطالبة بالمحاصصة ضرباً من ضروب العبث، في وقتٍ تنهار فيه البلاد ولم يعد فيها ما يمكن تقاسم الحصص عليه.
وعلى ما يعتبر الخصوم، فإنه لا تغيّر في حقيقة بيانات النفي المتلاحقة التي باتت دوائر القصر الجمهوري مُلمّة بصياغات، يصفها الخصوم بغير الواقعية، على شاكِلة أنّ النائب جبران باسيل لا يتدخل في مفاوضات تأليف الحكومة، وأنّ رئيس الجمهورية لم يطالب بالثلث المعطّل. فأبسط قواعد المنطق، كما يقول الخصوم، تَشي بأنّه لو صحّت بيانات النفي تلك، لأبصَرت الحكومة النور منذ تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل هذه الحكومة، لا سيما أن تلك المرحلة كانت تشهد زخماً في الحراك الدولي، وعلى وجه التحديد عبر المبادرة الفرنسية، لا سيما بعدما حُلّت العقد التي حالت دون إتمام مهمة مصطفى أديب.
وامتداداً لما سبق، فإنّ ما صدر عن الرئيس نبيه بري بعد فترة من الصمت الإرادي، لا يقتصر على التوصيف، بل هو يشكل خريطة طريق قد تمثّل الفرصة الأخيرة التي ينبغي على الجميع - او بالأصح على المعطّلين الرئيسيين - التقاطها قبل الانفجار الكبير الذي لاحَت نُذره في طرابلس خلال الأيام الماضية، والذي به لن ينفع أيّ ندم على ما أُهدِر من مبادرات.
بهذا المعنى يتلاقى كلام الرئيس بري مع الحراك الفرنسي المتجدد لتحريك مسار التأليف، والذي يمكن تحديد خطوطه العريضة بـ3 نقاط:
- أولاً: إعادة التأكيد على ثوابت الوزراء الاختصاصيين غير التابعين وغير الحزبيين.
- ثانياً: تولّي الأطراف السياسيّة والطائفيّة تسمية وزرائها، وموافقة الأطراف المعنية على أن الاختيار سيتم على قاعدة «أسماء ليست معنا وليست ضدنا».
- ثالثاً: التخلّي عن فكرة الثلث المعطّل، التي لم تعد مجرّد بدعة دستورية في زمن الترف السياسي قبل 17 تشرين الأول 2019، بل باتت تأشيرة دخول إلى جهنم بتذكرة سفر ذهاب بلا إياب.
على أنّ السؤال الجوهري الذي يتبادَر إلى الذهن بعد مبادرة بري، يتمثّل في تحديد مدى استعداد المعطّلين على التقاط الفرصة، لا سيما بعد حديث الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن زيارته الثالثة للبنان، والتي قال انه ينتظر لتحديد موعدها نضوج بعض الظروف، التي يمكن تَوَقُّع أنّ الرئيس الفرنسي يقصد بها اختراقاً، ولو محدوداً، في جدار الأزمة الحكومية.
حتى الآن، لا يبدو أنّ ثمّة ما يبشّر بالخير. صحيح أنّ الرئيس المكلف قد صدرت عنه تلميحات علنية غير مباشرة، الى جانب تسريبات تفيد بقبوله المبادرة الجديدة.
وصحيح كذلك أنّ رئاسة الجمهورية قد نَفت مطالبتها بالثلث المعطّل، بعدما أصابتها سهام كلام رئيس المجلس النيابي ولو لم يسمّها.
إلّا أنّ تجربة الحكم، تجعل فرَص الفشل أكبر بكثير من فرص النجاح، أقلّه من ناحية التيار البرتقالي، الذي يبدو أنّ غرفة عملياته قد بدأت بالتحرك المضاد، لا سيما بعدما تبيّن انّ جوهر مبادرة بري لم يَرق لرئيسه، وهو ما بدأ يتكشّف بالأمس من خلال محاولة الإيحاء بأنّ كلام الرئيس بري، وعلى رغم ما تضمّنه بيان رئاسة الجمهورية بالأمس، موجّه في الأساس الى سعد الحريري وأنّ هدفه «حشر» الأخير في الزاوية!