لم يكن اللبنانيون في حاجة، ليلة رأس السنة، الى منجّمين يتنبأون لهم بعام كوارث جديد. لعلّ مجرد نظرة سريعة الى المشهد العبثي اللامتناهي في الداخل، والمترافق مع مشهد لا يقلّ جنوناً في الخارج، أقلّه في سقف زمني يمتد حتى العشرين من كانون الثاني الحالي، من شأنها أن تجعل كل لبناني يتفوق على ميشال حايك وليلى عبد اللطيف، في استشراف الكارثة المقبلة.
واذا كان العام 2020 قد اتسم بطابع كارثي بالنسبة للغالبية الساحقة من اللبنانيين، الذين يرزحون تحت وطأة أسوأ أزمة اقتصادية - اجتماعية على الإطلاق، بعد الارتفاع الخيالي في سعر صرف الدولار، وهو ما انعكس ارتفاعاً اكثر خيالية في أسعار كافة السلع، في بلد قائم اقتصاده على الاستيراد، ثمة الكثير من الأسباب التي تدفع الى توقّع يقترب من اليقين، بأنّ العام 2021 قد لا يكون افضل حالاً، خصوصاً أنّ المؤشرات السياسية من جهة، والتي توازيها مؤشرات مالية خطيرة، لا تبشّر سوى بالانهيار الشامل، الذي تبدو معه البلاد مفتوحة على كافة السيناريوهات الكارثية.
بهذا المعنى، فإن العام 2020، الذي وصف بعام الجنون، بات من دون أدنى شك، المؤسس لعام جديد يمكن توقّع طابعه الهستيري بشكل سهل. فالشلل العام بات السمة الرئيسية للحياة السياسية الخاوية، والتي باتت في انحدار مريع، نفد معه رصيد كل القوى السياسية المتحكمة بمصير البلاد والعباد، فيما مخزون الأزمات بات طافحاً بالتعقيدات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتفاقمة، الملامسة لحافة الانفجار الاجتماعي الرهيب. وكل ذلك من دون الأخذ في الحسبان السيناريوهات الكارثية الاخرى التي تلوح في الأفق، من بوابة التطوّرات المتسارعة في المنطقة، في الأيام العصيبة التي تفصل بين عهدين رئاسيين في الولايات المتحدة.
هكذا تبدو ازمة لبنان بنسخة العام 2021، خليطاً بين داخل مفلس وخارج ملبّد بغيوم المغامرات السياسية والعسكرية الداكنة.
وإذا كان لبنان اضعف من أن يغيّر قيد انملة في وجهة العاصفة، فإنّ الكارثة الكبرى تتمثل في عجز الطبقة السياسية عن تحصين البلاد من الرياح العاتية التي بدأت تتكون في الأفق الخارجي. فبدلاً من التحسب للمخاطر الرهيبة التي تتهدّد العالم، وعنوانها العريض المغامرات الترامبية - النتنياهوية، يغيب العقل السياسي الذي يفترض أن يتدبّر أمر لبنان بحكمة ومسؤوليّة، في حفلة جنون، عنوانها المحاصصة وتقديم المصالح والشهوات على المصير الوجودي للبلد.
بذلك، باتت كل عوامل الاطمئنان مفقودة، وكل عوامل التفجير موجودة، وهو ما يتبدّى في كل نواحي الحياة في لبنان، ابتداءً من الفشل في تشكيل الحكومة التي لا يبدو أنّ ثمة افقاً لها، مروراً بالأزمة الاقتصادية المفتوحة على أكثر السيناريوهات تطرّفاً، في ظلّ نضوب احتياطيات الدولار، وصولاً الى الفشل المدوّي في مقاربة الجائحة الوبائية التي يستمر عدادها في الارتفاع بوتيرة تقترب من الخروج عن السيطرة، فضلاً عن الانفلات الأمني غير المسبوق، والذي لا ينقصه حالياً سوى قرار من غرفة سوداء، بإيقاظ الخلايا الارهابية النائمة.
تكمن الكارثة الحقيقية في أنّ القائمين على شؤون البلاد ما زالوا يعلّقون خطاياهم على شماعة الخارج حصراً. هكذا يتمّ تكرار المشهد تلو الآخر، واللقاء تلو الآخر، وما من نتيجة سوى حفلات نشر الغسيل.
واذا كانت حكومة حسان دياب، التي تتولّى حالياً مهمة تصريف الأعمال، قد ولدت في تسوية سياسية ليل العشرين من كانون الثاني 2020، فإنّ الموعد نفسه هذا العام بات توقيتاً واهماً، يحاول من خلاله البعض الإيهام بأنّ رحيل دونالد ترامب سيُنهي الأزمة اللبنانية بعصا سحرية يرفعها جو بايدن وقت تنصيبه، رغم أنّ منطق الامور يشي بعكس ذلك، خصوصاً انّ اية تغييرات تلقائية في السياسة الخارجية الأميركية مستبعدة، لا سيما حين يتعلق الامر بلبنان، الذي لم يكن ضمن سلّم الأكثر الحاحاً للإدارات الاميركية إلّا في محطات نادرة، كما كانت الحال في عامي 1982 و2006.
وبالرغم من أنّ المشهد الحكومي في لبنان بات مكرّراً حتى الملل، في بلد قائم على التوازنات والمحاصصات السياسية والطائفية التي أعاقت كل محاولات الإصلاح منذ الاستقلال، يفوق كل تصوّر، ما يدفع الى التساؤل حول ما اذا كان العام الجديد هو عام تغيير النظام اللبناني الذي بات منتهي الصلاحية… والأهم، بأي ثمن سيحدث ذلك؟
يبدو ذلك واضحاً، في أنّ كل ما شهده لبنان خلال العام 2020، قد اسقط كل أوراق التوت، التي كانت حتى الأمس القريب قادرة على تغطية عورة النظام اللبناني.
من أهم المحطات الفارقة، كان اعلان الحكومة تعليق تسديد ديونها الخارجية، ما ادخل البلاد عملياً في نادي الدول المفلسة، او بالاحرى الدول الفاشلة، اذا ما اضيف الى الافلاس تفشّي الفساد وغياب الإرادة السياسية، وهي حقيقة قائمة وإن كان البعض يحاول انكارها.
الواقع انّ الزلزال الاقتصادي الذي ضرب لبنان لن تقتصر مفاعيله على ودائع محجوزة وكابيتال كونترول وهيركات… الى آخر تلك المصطلحات التي دخلت قاموسنا. بل هي نقطة النهاية للسياسات الاقتصادية التي اعتُمدت لسنوات طويلة، تحت مسمّى «الهندسات المالية»، الذي يصطلح الاقتصاديون على وصفها بـ»مخطط بونزي»، الذي قدّم من خلاله المصرف المركزي معدلات فائدة سخية، تصل إلى 11 في المئة، للمصارف التجارية، كجزء من عمليات المقايضة المعقّدة للديون الحكومية التي بلغت نسبتها 170 في المئة من الناتج المحلي، ما جعل لبنان ثالث أكثر دولة مثقلة بالديون في العالم.
يمثل ذلك ايضاً مؤشراً الى فشل القطاع المصرفي، الذي شكّل ركيزة اساسية للنظام السياسي في لبنان منذ تشكّله قبل مئة عام، بعد اعلان ما سُمّي بـ»دولة لبنان الكبير»، غداة هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
اما انفجار مرفأ بيروت، الذي دخلت التحقيقات بشأنه في بازار المحاصصات السياسية، فقد كشف بالفعل عن الوجه الاكثر شناعة للنظام اللبناني، الذي بدا منظومة فساد متكاملة وعابرة لحدود السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والامنية، ما يدفع الى فرضية تقترب من اليقين، بأنّ ذلك النظام لم يعد قادراً على الاستمرار بشكله الحالي بعد الآن.
ولكن ما ثمن التغيير؟
تبدو هنا كل الاحتمالات واردة، بما في ذلك الاحتمالات الأكثر كارثية، والمتمثلة في تدويل الملف اللبناني، وهو ما بدأ بالفعل منذ انفجار المرفأ والزيارتين الاولى والثانية لايمانويل ماكرون- والتي حال فيروس كورونا دون الثالثة منها - وما رافقها وتلاها من حضور خارجي، إن على شكل مساعدات اغاثية أو على شكل حضور استخباراتي علني.
كل ما سبق يتقاطع اليوم ضمن المنحى التصاعدي لصراعات السياسة اللبنانية، والذي يفترض أنّه لم يصل بعد الى نقطة الذروة، المتمثلة في الاستحقاقين الانتخابيين الرئاسي والنيابي عام 2022، وحينها لا شك في انّ الاشتباك سيصل الى مفترق طرق خطير، بين طريق التسوية المعبّدة بالالغام، وطريق السقوط الحر الى قاع الجحيم.