ما لم تحدث مفاجآت «قضائية» منذ الآن وحتى بداية العام المقبل، يمكن القول إنّ العالم قد دخل حقبة جو بايدن، بكل تعقيداتها، وتأثيراتها على المشهد الدولي العام، وبشكل أخص المشهد الشرق أوسطي، الذي كان لبنان ولا يزال في عين عواصفه.
من السابق لأوانه الجزم بمسار السياسات الأميركية عموماً. لم يعد ممكناً اليوم تصنيف تلك السياسات من منطلق الهوية الحزبية لساكن البيت الأبيض، جمهورياً كان أو ديموقراطياً، كما درجت العادة.
أميركا لم تعد نفسها. حالة الاستقطاب الداخلي التي تصل إلى حدّ الانقسام العمودي الذي يدفع البعض، ولو مبالغة، بإبداء مخاوفهم - أمانيهم بحرب أهلية، تجعل السياسات الأميركية منصّبة أكثر على الداخل منه على الخارج. ثمة أزمات داخلية، يمكن افتراض أنّ جو بايدن سيكون منشغلاً بها: الجائحة الوبائية، الكساد الاقتصادي، التخلص من تركة دونالد ترامب الثقيلة... وقبل أي شيء إستعادة الوحدة الداخلية.
مع ذلك، لا ينبغي الرهان على الانشغالات الداخلية للادارة المقبلة، فحتى إدارة دونالد ترامب، التي وصفت بالانعزالية، لم تمنع ميلاً اميركياً امبراطورياً متأصّلاً للتصعيد الخارجي، على النحو الذي خبره العالم خلال السنوات الأربع الماضية، ابتداءً من الصين وروسيا، مروراً بإيران، وصولاً إلى أميركا اللاتينية.
بهذا المعنى، لا يمكن أن يتوقع المرء أن يسير جو بايدن على نهج «رفيقه» الديموقراطي باراك أوباما، أقلّه في السياسة الخارجية. من هذا المنطلق، يصعب كثيراً توقّع النهج الذي سيتخذه الرئيس الأميركي الجديد في ما يخصّ الملف النووي الإيراني، الذي بات المحرّك العام للسياسات الشرق أوسطية، منذ أن فرضت ايران نفسها كقوة إقليمية.
في ظلّ الواقع الأميركي الحالي، سيجد بايدن صعوبة في الانتقال من سياسة الضغوط القصوى التي اعتمدها دونالد ترامب، وبالتالي كسر الستاتيكو الذي تمكن من فرضه طوال أربعة أعوام، من الحصار المالي والاقتصادي، والذي، برغم طابعه العدائي، المتمثل في الانسحاب من تسوية فيينا النووية، قد حال دون انجرار الشرق الأوسط إلى حالة الحرب، حتى في أكثر اللحظات تعقيداً (اغتيال قاسم سليماني، اسقاط الطائرة الأميركية...الخ)، سواء كان هذا التفجير حرباً أميركية - ايرانية أو حرباً إسرائيلية - إيرانية.
لذلك، مخطئ من يعتقد أنّ اعادة احياء التسوية النووية ستكون أمراً يسيراً على الإدارة الأميركية المقبلة، إلّا باتفاق جديد، أو بمعنى آخر وفق الوجهة التي فرضها دونالد ترامب على إيران في العام الأول من عهده، وإن كانت امكانية التوصل إلى اتفاق جديد مع الرئيس الديموقراطي قد تكون أكثر مرونة، قياساً إلى ما يمكن أن تكون عليه الحال مع رئيس جمهوري.
ومن المعروف أنّ الديمقراطيين في ولايتي أوباما، بمن فيهم جو بايدن، سعوا بشكل حثيث لفرض عقوبات أشد على إيران، وبالتالي يمكن اعتبار أنّ ما قام به ترامب هو عملية تمهيد طريق لإدارة بايدن، بما يملّكها ورقة أقوى للتفاوض، والسقف أضحى أعلى بكثير مما كان عليه في عهد باراك أوباما. ومن هنا، فإنّ كل التقديرات تذهب بأنّ الإدارة الجديدة لن تبني على ما حققه باراك اوباما في الملف النووي، وإنما على ما حققه دونالد ترامب.
ما سبق، ينطبق على الملف الإسرائيلي - الفلسطيني. دونالد ترامب فعل ما فعل، وما على بايدن سوى الانطلاق من حيث انتهى إليه سلفه، من تكريس الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، مروراً بإقرار السيادة الإسرائيلية على الجولان، وصولاً إلى اتفاقيات التطبيع الأخيرة التي رعاها بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان.
طالما أنّ لبنان مرتبط بشكل وثيق بالملف الإيراني من جهة، وبالملف الإسرائيلي - الفلسطيني من جهة أخرى، علاوة على الملف السوري الذي يمكن افتراض أنّ النزعة الأميركية فيه ستكون أكثر عدوانية في ظلّ إدارة الديموقراطيين، فإنّ من الخطأ الاعتقاد بأنّ وصول بايدن إلى البيت الأبيض سيحدث تغييراً تجاه الملف اللبناني. هكذا لا يمكن توهم أنّ ثمة تغييراً جذرياً محتملاً في السياسات الأميركية تجاه لبنان، أو اعتماد مسار مختلف عن ذاك الذي أرساه دونالد ترامب.
ثمة أسباب كثيرة تدفع في اتجاه هذا الاعتقاد، وأهمها أنّ لبنان ليس على سلّم أولويات إي إدارة في الولايات المتحدة، أياً كانت هويتها الحزبية. ولهذا، فمن الثابت أنّ السياسات الاميركية تجاه لبنان لا تُتخذ إلّا في سياق مدى خدمتها لمصالح إسرائيل، الذي لا يختلف رئيس جمهوري عن رئيس ديموقراطي في تقديم أوراق اعتماده لديها، وهو واقع لم يستطع، حتى باراك اوباما في ذروة صدامه مع بنيامين نتنياهو، أن يتجاوزه.
يُضاف إلى ما سبق، أنّ السياسات الأميركية عموماً، ولا سيما العقوبات المفروضة على هذا البلد أو ذاك، لا تتغيّر بشكل مفاجئ، لا بل أنّ ثمة قاعدة ثابتة في السياسة الأميركية تفيد بأنّ الرئيس المنتهية ولايته غالباً ما يتعمّد التشدّد في القرارات خلال الفترة الانتقالية الفاصلة بين الانتخابات الرئاسية وموعد التسليم والتسلّم.
على هذا الأساس، يمكن افتراض أنّ لبنان سيواجه خلال ما تبقّى من ولاية ترامب أشدّ التحدّيات خطورة. فالرئيس الجمهوري سيحاول في أكثر من ملف أن يكبّل يديّ خلفه، وهو ما يُفسّر على سبيل المثال المعلومات التي بدأت تتسرّب إلى الاعلام الأميركي بشأن خطوات عدائية يستعد الرئيس المنتهية ولايته أن يتخذها، وفق ما تسمح به صلاحياته الدستورية، في أكثر من ملف يعني السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما في الملف النووي الإيراني، ما سينسحب بطبيعة الحال على المشهد اللبناني.
من هنا، لا يمكن وضع العقوبات الأميركية الأخيرة التي استهدفت رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وما يتردّد عن قوائم جاهزة للنشر، إلّا في خانة التحدّيات الخطيرة التي يمكن ان يواجهها لبنان خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، والتي لا تشي بطبيعة الحال أنّ ثمة فرصة لتجاوزها، وهو ما يتبدّى في تعثر عملية تشكيل الحكومة الجديدة، التي ما زالت القضايا الخلافية الخاصة بها تدور في الدائرة المفرغة، بعد جرعة التفاؤل الخادعة التي تبدّت قبل أيام من الانتخابات الرئاسية الأميركية.
بطبيعة الحال، لبنان ليس وحده معنياً بالتصعيد المرتقب في القرارات الترامبية الأخيرة، لكن الكل يسير وفق منطق الانحناء للعاصفة الهستيرية الهوجاء، إلى أن يُقسم الرئيس الجديد يمين الحكم، ويدخل البيت الأبيض، ليُبنى في ما بعد على الشيء مقتضاه.
لكن تكتيك الانحناء للعاصفة لم يعد يجدي في لبنان. لقد فوّت القائمون على حكم البلاد الفرصة، وتشكيل حكومة انقاذية يحتاجها لبنان اكثر من اي وقت مضى. فإذا كان هامش المناورة الذي يمكن أن تمتلكه دولة ما في العالم يُقاس بالأشهر، فإنّه في لبنان يكاد يُقاس بالساعات... ومن هنا يكمن السؤال، هل يمكن أن يتحمّل لبنان الضربات المتتالية التي سيتلقاها حتى كانون الثاني 2021... الأمر بطبيعة الحال يحتاج إلى معجزة في زمن ولّت فيه المعجزات!