صار المشهد الحكومي مملاً، ومنفّراً، ومستفزّاً; كل الصفات السيئة تنطبق عليه، زيارة تلو زيارة يقوم بها الرئيس المكلّف سعد الحريري إلى القصر الجمهوري، حاملاً فكرة تلو أخرى، والمشاورات في شأن تشكيل الحكومة الجديدة دخلت في شهرها الثاني، من دون بادرة تفاؤل، لتبقى شؤون العباد محكومة بالجمود، او التجميد المفتعل، في وقت تُستنزف فيه احتياطيات البلاد، يوماً بعد آخر، لتنذر بمزيد من التأزيم، الذي بات هاجساً ينام عليه المواطن ليلاً، وكابوساً يصحو عليه صباحاً.
حتى التبريرات باتت مملة... قبل أسابيع قليلة، حدّد القائمون على عملية التشكيل يوم الثالث من تشرين الثاني موعداً مبشّراً بالولادة الحكومية، كما لو أنّ الحكومة اللبنانية ملف رئيسي في انتخابات الرئاسة الأميركية. اليوم، وفي سياق العبثية ذاتها، انتقل الموعد إلى العشرين من كانون الثاني، موعد التسليم والتسلّم في البيت الأبيض، كما لو أنّ السياسات الأميركية ستتغيّر بين ليلة وضحاها، أو أنّ جو بايدن سيكون أكثر عطفاً وحناناً على لبنان. من سلفه دونالد ترامب!
هو الإفلاس السياسي الذي بات السمة الأبرز لكل المناورات والألاعيب التي أدخلت لبنان في حلقة مفرغة، لا مخرج منها إلّا الجحيم، الذي تلوح آفاقه يومياً في لقمة عيش اللبناني ودوائه. حتى موعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض قد لا يكون موعداً نهائياً للتشكيل، فالطبقة الحاكمة، في ظلّ العبث الذي تقارب فيه الشؤون الوطنية، ستكون قادرة على استيلاد المزيد من المواعيد، لا سيما إذا ما فرضت المتغيّرات الخارجية والمناكفات الداخلية معادلات جديدة تدفع بالعملية إلى ما لا نهاية.
ثمة من يقول إنّ المؤثرات الخارجية لا تزال تشكّل عاملاً أساسياً في تعقيد العملية المتعثرة لتشكيل الحكومة، لا سيما أنّ الولايات المتحدة مارست، ولا تزال، سلسلة من الضغوط المتلاحقة، التي ساهمت في دخول المبادرة الفرنسية في حالة موت سريري، وهو ما اتضح جلياً منذ فرض العقوبات على الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، ما عطّل تشكيل حكومة مصطفى أديب، ومن ثم على النائب جبران باسيل، ما ساهم أيضاً في تعطيل تشكيل حكومة سعد الحريري.
ولكن، هناك في المقابل من يقول العكس، ويرى أنّ العامل الخارجي وحده لم يكن لينتج هذه المفاعيل، لا سيما في الوقت المستقطع، الذي كان من الممكن للقوى السياسية في لبنان استغلاله، خلال انشغال الإدارة الحالية بالحملة الرئاسية، بدلاً من المخاطر بتأخير التشكيلة الحكومية إلى ما بعد الانتخابات، لا سيما أنّ دونالد ترامب، وكما هو معروف، لن يوفّر جهداً للتصعيد في الأسابيع الأخيرة من عهده، وهو ما تؤكّده التسريبات الصادرة من واشنطن باستعداد وزارة الخزانة الأميركية لفرض مزيد من العقوبات على شخصيات لبنانية، سواء سياسية أو مصرفية.
في هذا الوقت المستقطع، فوّتت القوى السياسية في لبنان فرصة البناء على المبادرة الفرنسية، التي كان من المرجّح أن توفر للبنان مظلّة دولية، باتت البلاد تفتقدها منذ أن اختارت الإدارة الأميركية تكثيف الضغوط الاقتصادية والسياسية، وهو مسار اتخذ بعداً أكثر عدوانية منذ زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان، وقاد إلى ما قاد إليه من أزمة اقتصادية-اجتماعية، تفجّرت في الشارع أولاً، وعلى المستوى الحكومي ثانياً.
اليوم يبدي الفرنسيون فتوراً، يعكس مستوى هائلاً من الاحباط، بالنظر إلى عجز القوى السياسية اللبنانية عن التقاط مبادرتهم، فتحوّل المؤتمر الباريسي الموعود، تبعاً لذلك، من مؤتمر للدعم الاقتصادي إلى مؤتمر للدعم الانساني، في وقت باتت الصحافة الفرنسية منبراً للهجوم على الطبقة الحاكمة في لبنان على نحو غير مسبوق.
وحتى ولو جرى التسليم بوجود العامل الخارجي المعطّل لتأليف الحكومة، فإنّ ثمة ما يحفّزه في الداخل، حيث ما زال الكل يتعامل مع الأزمة المدمّرة، التي تتفاقم حدّتها يوماً بعد يوم، بالمنطق ذاته الذي اعتُمد منذ العام 2005، وحتى 17 تشرين الأول 2019.
ضمن هذه المقاربة العبثية تتفاقم العِقَد، لا سيما على خط «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، لا سيما في ظلّ تمسّك الأول بمقاربته للتمثيل الوزاري، ولا سيما التمسّك بالوزارات التي يراها حساسة، من قبيل الدفاع الطاقة والعدل والداخلية، في إطار المزايدة على استحواذ الثنائي الشيعي على وزارة المال، مع العلم بأنّ تمسّك «الثنائي» بهذه الوزارة يأتي في سياق مختلف تماماً عمّا عداها، بالنظر إلى رمزيتها أمام التصعيد الأميركي ضد «حزب الله»، وامتداداً لذلك حركة «أمل»، على النحو الذي تبدّى أخيراً.
على هذا الأساس، هناك من يتهم «التيار الوطني الحرّ» بأنّه يصرّ على مناكفة الجميع، عبر تشكيل حكومة تتناقض في جوهرها مع المبادرة الفرنسية التي يفترض أن تقود إلى تشكيل حكومة اختصاصيين.
لا يغيّر في الأمر هنا محاولة القصر الجمهوري، مرّة تلو أخرى، النأي بالوزير جبران باسيل عن عملية التأليف وانّ لا دور له فيها، فالفصل بين الرئيس ميشال عون وصهره بات الجميع ينظر إليه بالحدّ الأدنى على أنّه نكتة سياسية مملة، وفي الحدّ الأعلى كمحاولة دائمة للمناورة، على النحو الذي تبدّى في الحكومات السابقة، حين حاول التيار البرتقالي الفصل بين وزرائه وحصّة رئيس الجمهورية.
لكن العقد لا تقتصر على «التيار الوطني الحر» أو رئيس الجمهورية، فالرئيس المكلّف نفسه اتخذ مساراً غير مألوف في التشكيل، حين تخلّى، وفي مرحلة بالغة الحساسية، عن إجراء مشاورات مع الكتل النيابية، واختيار الأسماء بالتفاهم معها، وهو ما يجعل جزءًا أساسياً في تعثر تشكيل الحكومة ينطلق من غياب رؤية ومنهجية واضحتين في هذه العملية.
السؤال الذي يُطرح اليوم، كما بالأمس: ماذا بعد؟
من الواضح أنّ هامش الوقت بدأ يضيق أمام الجميع، فما تبقّى من أيام تفصل العالم عن استحقاق 20 كانون الثاني في الولايات المتحدة، بكل ما تحمله تلك الأيام من مخاطر تفجيرية، على النحو الذي تبدّى قبل أيام مع اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، وقبلها التسريبات الأميركية بشأن احتمال توجيه ضربة أميركية إلى ايران، يجعل الرهان على المتغيّرات التي يمكن أن تطرأ على السياسة الأميركية في عهد جو بايدن، أقرب إلى مقامرة محفوفة بتداعيات كارثية، وذلك لسببين جوهريين:
- الأول، هو أنّ أحداً لا يستطيع تخمين السياسات التي سينتهجها دونالد ترامب قبل خروجه من البيت الأبيض، فثمة تقديرات لكبار السياسيين والمحللين، بأنّ الرئيس المنتهية ولايته سيسعى جاهداً الى تكبيل خلفه بالكثير من الأثقال، التي ستنعكس على لبنان بشكل مباشر، وهي تتراوح بين حدّ ادنى يتمثل في تكثيف العقوبات على الشخصيات السياسية والاقتصادية والمصرفية اللبنانية، وبين حدّ أقصى يتعلق بالمقاربة التي ستُعتمد في الملف النووي الإيراني، والتي من شأنها أن تقود إلى تفجير اقليمي لن يكون لبنان في منأىً عنه.
- الثاني، هو أنّ السياسات الخارجية الأميركية لا تتغيّر عادة بين ليلة وضحاها، كما يعتقد البعض، ما يعني أنّ العشرين من كانون الثاني لن يكون موعداً سحرياً تتلاشى فيه إجراءات الإدارة السابقة لصالح إجراءات جديدة. فالسياسات في أميركا، وكما هو معروف، لا تُتخذ بناءً على منطق انقلابي، ما يعني أنّ إرث ترامب سيبقى ثقيلاً على لبنان لعدّة أشهر على الأقل.
هنا يكمن السؤال الجوهري: هل يصمد لبنان حتى ذلك الحين؟
يمكن، وبجرعة كبيرة من الثقة، الإجابة نفياً، فكل يوم يمضي في ظلّ تعثر التشكيل الحكومي يحمل مزيداً من التأزيم السياسي والاقتصادي، وربما الأمني، الذي قد تذهب معه البلاد إلى طريق اللاعودة في أية لحظة.