بانقضاء مهلة الأيام الخمسة عشر التي حدّدها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، لا يزال تأليف هذه الحكومة يدور في الحلقة المفرغة ذاتها، التي بدأ فيها الدوران اعتباراً من اليوم الأول لهذه المهلة.
في الاساس، انّ هذه المهلة كما حدّدها ماكرون نفسه، لم يقدّمها على أنّها مُنزلة، ويتبيّن ذلك بوضوح في العبارات الدقيقة التي صاغها الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر حين قال حرفياً: «إنّ تشكيل الحكومة لا ينبغي أن يستمر أكثر من 15 يوماً»، ولكنّ ثمّة في الداخل من حاول أن يجعل من هذه «المهلة الماكرونية»، فرصة لإحداث انقلاب في المشهد الداخلي، يمكّنه من اعادة الإمساك بمفاصل السلطة والقرار، فسعى الى تسويقها على أنّها مهلة مُنزلة، وأنّها فترة انذار ينبغي خلالها أن تتشكّل الحكومة كما يريدها، والّا فإنّ سيف التشهير الذي توعّد به ماكرون سيُصلت على رقاب المعطّلين، كما سيف العقوبات الذي سيطالهم، اضافة الى بلوغ البلد جراء هذا التعطيل هاوية الانهيار المريع اقتصادياً ومالياً.
كل الاطراف التي سمّت مصطفى اديب لرئاسة الحكومة، ومن ضمن هذه الاطراف الثنائي الشيعي، التزمت أمام الرئيس الفرنسي بالتعاون والتسهيل، لكنّها فوجئت من اليوم الأول لهذه المهلة، بأنّ الفريق الذي رشّح أديب قبل استشارات التكليف، يجنح الى الاستثمار على مهلة الاسبوعين، في الاتجاه الذي يطبخ من خلالها «حكومته» بمعزل عن كلّ الاطراف والمكونات السياسية والطائفية. والعلامة النافرة التي تبدّت كانت في تحييد هذا الفريق للرئيس المكلّف عن مهمّة التأليف كلياً، ووضعه في ما يشبه الحَجر السياسي، فيما تصدّر سعد الحريري عملية الطبخ هذه، وتحوّل بيت الوسط إلى «مختبر» لإجراء «الفحوصات» لمن يعتبرهم مرشحين مناسبين للتوزير، ومن بينهم شخصيات شيعية، فاجأت الحريري بإبدائها الاستعداد للتعاون والشراكة في الحكومة، ولكن بشرط اساسي، وهو بعد موافقة الثنائي الشيعي، وبشكل اساسي الرئيس نبيه بري على ترشيحهم.
هذا المنحى الأحادي في التأليف، تضاف اليه مصادرة حق الآخرين في تسمية وزرائهم، والتصويب على وزارة المالية لانتزاعها من الحصّة الشيعية، ايقظ مجموعة كبيرة من الهواجس، وتحديداً لدى «الثنائي الشيعي»، الذي ابلغ الحريري مباشرة، بأنّ هذا المنحى الذي يسلكه في التأليف، يشكّل انحرافاً كلياً في الاتجاه المعاكس للمبادرة الفرنسية، التي تقول بتشكيل حكومة متفاهم عليها، يُفترض انّها إصلاحية ببرنامج انقاذي يشارك كل الاطراف في تنفيذه، وليس حكومة أمر واقع، يفرضها فريق محدّد على سائر الفرقاء، ما يجعل منها في أحسن حالاتها حكومة صدام ومواجهة.
هذه الهواجس انطلقت من شعور لدى «المهجوسين»، بأنّ هناك من يسعى إلى تجديد مناخ العام 2005، سواء بمنحى التفرّد، او بالفيتوات الداخلية، أو الاستقواء بالخارج، وذلك في محاولة للانقلاب اولاً على المبادرة الفرنسية، وثانياً والاهم، على نتائج انتخابات العام 2018، من خلال دفع الأكثرية النيابية إلى موقع دفاعي، يتنافى مع الحاجة الملحّة في الوقت الراهن لتشكيل حكومة انقاذية بعيدة في توجّهاتها عن تصفية الحسابات السياسية.
الرئيس المكلّف منكفئ او محيّد خلف المشهد، فيما الحريري مارس فعلياً كرئيس مكلّف؛ يفاوض، ويحدّد شكل الحكومة، ويسمّي الوزراء. الثنائي الشيعي استُفزّ من المنحى الذي يسلكه الحريري، والخليلان التقيا به اكثر من مرة خلال الايام القليلة الماضية، واكّدا في هذه اللقاءات حرصهما على التعامل مع الحراك الفرنسي بإيجابية، باعتبار مبادرة ماكرون الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً، وينبغي استغلالها بالشكل الذي يحقق الهدف الانقاذي المحدّد فيها. مع تأكيدهما في الوقت ذاته على الموقف الموحّد لحركة «أمل» و»حزب الله»، برفضهما مصادرة حقهما في تسمية الوزراء، واصرارهما على ابقاء وزارة المالية من ضمن الحصة الشيعية. ما يعني بالنسبة اليهما، هو انّ المالية وتسمية الوزراء خارج النقاش في اي حكومة يجري تشكيلها.
الّا انّ الخليلين فوجئا بإصرار الحريري على هذا المنحى، وتصميمه على اجراء مداورة في الوزارات، واخراج المالية من الحصّة الشيعية واسنادها لشخصية غير شيعية (حدّد لها شخصية سنّية). وايضاً على تسمية الوزراء الشيعة في الحكومة. وهو في هذا السياق، حاول ان يوجد حلاً وسطاً يفيد بأن يبادر هو، اي الحريري، الى ان يطرح ثلاثة اسماء شيعية، على ان يختار الثنائي واحداً من بينهم، لكن هذا الطرح رُفض بشكل قاطع. حتى انّ اللقاء بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والحريري السبت الماضي، انتهى الى افتراق كلّي في موقفي بري والحريري، الذي اصرّ على انتزاع الماليّة واختيار الوزراء. وتبعاً لذلك، جاء البيان المقتضب الذي اصدره الرئيس بري، والذي تضمّن رسالة واضحة بأنّه لا يرفض المبادرة الفرنسية بل هو داعم لها، ولكنه رفض استغلالها لتصفية حسابات داخلية لا مسؤولة.
لقد تبدّى لهذا الفريق من خلال المنحى الذي يسلكه الحريري على خط التأليف، بأنّه، اي الحريري، مسكون بطموحات داخلية، يسعى من خلالها الى تحقيق مكاسب سياسية، في مقامرة خطيرة بمصير البلد، وكذلك في مغامرة سياسية جديدة، من شأنها أن تفقده رصيده المتبقّي لدى من وقفوا إلى جانبه، ولا سيما الرئيس نبيه بري، الذي كان حتى الأمس وما قبل ايام قليلة، على استعداد لأن يقدّم إليه «لبن العصفور» وأن يقف معه «ظالماً أو مظلوماً». ومن شأن تلك المغامرة ايضاً، ان تؤجج المشاعر السياسية في الشارعين السنّي والشيعي، وهو الأمر الذي يتعامل معه «حزب الله» وحركة «أمل» باعتباره من المحظورات الوطنية، ولا سيما منذ أن لاحت نذر الفتنة في السبت الحزيراني الأسود، والذي كان الرهان فيه كبيراً على «عقلانية الحريري» في احتواء أجواء التوتير، على النحو الذي قام به في أكثر من محطة، كان آخرها غداة صدور قرار المحكمة الدولية.
لم تنته المسألة عند «بيان بري - الرسالة»، بل انّ الساعات التالية له، وحتى ساعة متقدّمة من ليل الاحد - الاثنين، كانت الاكثر حدّة وسخونة من حيث الاتصالات واللقاءات. ويؤكّد المطلعون على مجرياتها، انّ الثنائي الشيعي كان في منتهى الحدّة هذه المرة، وخصوصاً انّ الرئيس المكلّف كان يستعد لأن يعرض المسودة الحكومية (التي وضعها الحريري) على رئيس الجمهورية قبل ظهر الاثنين.
وعلى ما يقول المطلعون، فإنّ رسالة مباشرة، وصفت بأنّها «شديدة اللهجة»، وصلت الى كل من الحريري والرئيس نجيب ميقاتي، وكذلك الى الرئيس المكلّف، مفادها «لا تفكّروا في تجاوزنا، او ان تحطوا من قدر المكون الشيعي، أنتم بالمنحى الذي تسلكونه، تأخذون البلد الى مصير مجهول، وبالتالي انتم تتحمّلون كل المسؤوليات والتداعيات التي يمكن ان تحصل».
وبحسب هؤلاء المطلعين، فقد كان لهذه الرسالة الوقع المفاجئ لدى من وصلت اليه، وبعضهم قرأها على انّها تهديد، فقيل لهم ما مفاده: «الرسالة واضحة، تخيّلوا ما يحلو لكم، انتم اوصلتم الامور الى هذا الحد».
وعلى ما بدا جلياً، انّ هذه الرسالة ادّت غرضها، واندفاعة «فريق التأليف» الذي يتصدّره الحريري نحو حكومة من طرف واحد، قد تفرملت، وعدّل عن عرض تشكيلة على رئيس الجمهورية. وبادر الرئيس المكلّف مصطفى اديب بعد ذلك الى فتح الاتصال مع الثنائي الشيعي.
كل ما سبق اعاد الامور إلى المربّع الأول. فبعدما سقط الرهان على حكومة غير توافقية، وعلى ما سُمّيت «طموحات سياسية مدمّرة، اصبح الرهان الأكبر، الذي يمكن أن يجنّب لبنان الانفجار الذي يحوم شبحه في أجواء البلاد الملبّدة بدخان الحرائق اليومية، هو على بناء ارضية توافقية صلبة، لحكومة انقاذية فعلا لا قولاً، حتى ولو كانت حكومة انتقالية، يبقى مصيرها معلقاً على المتغيّرات الخارجية التي يمكن أن تلي انتخابات الرئاسة الأميركية. وللفرنسيين بالتأكيد دورهم في حماية مبادرتهم وانضاج هذه الحكومة والدفع الى التوافق عليها.