السنوات الأربع من الولاية الرئاسية لم تكن كما يشتهيها رئيس الجمهورية، وباعتراف الجميع، أنّها كانت سنوات عجاف سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا وصحيًّا وعلى كلّ المستويات.
بالتأكيد أنّ الرئيس ميشال عون يعوّل على أن يكون «الثلث الثالث» والاخير من هذه الولاية، الذي يبدأ بعد 12 يوماً، مختلفاً عن الثلثين السابقين، وتعويضيًّا عن الإخفاقات والإنهيارات بإنجازات تُحسب له وتُسجّل للعهد.
لكنّ المناخ السائد عشية الثلث الثالث، يؤشّر الى أنّه لن يكون ورديًّا، بل قد يكون أصعب من الثلثين السابقين، بالنظر إلى عمق الانقسامات الداخلية، والحِفَر والفجوات الضاربة في كلّ المفاصل السياسية وغير السياسية. مؤيّدو الرئيس، يخرجونه من دائرة التقصير في تحقيق وعد به الوصول الى ما يسمّيها «الدولة النظيفة». ويقولون: «المسؤولية تقع على الآخرين، الذين تعرّضوا للعهد منذ انطلاقته، إلى حملة شعواء لتفشيله ومنعه من تحقيق الاصلاح والتغيير المنشود. لم يتركوه يقوم بشيء، وفي الثلث الثالث لولايته، لا أولوية لدى الرئيس تعلو على اولوية إنقاذ العهد».
هل سنكون أمام «عون جديد» في الثلث الاخير من الولاية؟
يجيب هؤلاء: «لقد تحمّل الرئيس ما لم يتحمّله أحد، لن نكون أمام ميشال عون جديد، بل سنكون أمام ميشال عون، الذي بالتأكيد سيكون اكثر تشدّداً من ذي قبل».
وأمّا الخصوم فيقولون، إنّ «أيام اللولو .. انتهت»، وما انكسر في السنوات الاربع الماضية في ظلّ المعنويات العالية التي جاء فيها العهد، يصعُب لحمُه في ظلّ معنويّات انحدرت وتعاني ما تعانيه من انخفاض وانكسار، اضافة الى انّ تياره السياسي يقف على ارض خلافية مع الشريحة الكبرى من المكونات السياسية في البلد».
هنا يحضر سؤال ثانٍ: هل أنّ مقاربة الرئيس للإستشارات مندرجة في سياق التشدّد الذي سيعتمده؟
يقول المؤيّدون: «إنّ الرئيس يمارس صلاحياته، وممارسة الصلاحيات لا يمكن تفسيرها على أنّها تشدّد، وإن كان يُفهم منها على أنّها تشدّد، فذلك بهدف أن يأتي تكليف رئيس الحكومة على أرضيّة توافقية».
لكنّ للخصوم رأياً مختلفاً، فالرئيس في رأيهم قارب الإستشارات من موقع الطرف، الرافض لعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وتأجيله الاستشارات بلا ايّ سبب مقنع، جاء استجابة موصوفة لرغبة صهره النائب جبران باسيل.
في هذ المقاربة الطرفيّة، يقرأ الخصوم رسالة رئاسيّة مفادها «الحريري وباسيل معاً في الحكومة او معاً خارجها»، وتعكس في جانب آخر رغبة رئاسية بحكومة وصفها باسيل اختصاصية بالكامل، او حكومة تكنوسياسية، تتشكّلان بالطريقة الاعتيادية، أي كلّ طرف يسمّي وزراءه».
لكنّ المسألة شديدة التعقيد؛ فلا مرشح لرئاسة الحكومة سوى الحريري، وتكليفه تشكيل الحكومة اكيد في استشارات الخميس، إن جرت في موعدها. وباسيل قال إنّه لن يشارك لا هو ولا تياره في حكومة يرأسها الحريري.
موقف جبران هذا، لا يزعج الحريري، بقدر ما أنّه يُصعّب الأمر على رئيس الجمهورية. إذ كيف يمكن له أن يبدأ الثلث الثالث من ولايته الذي يريده «ثلث تحقيق إنجاز ما»، وتياره السياسي خارج الحكومة التي سيتمّ تشكيلها برئاسة الحريري، فهذه كسرة معنوية كبرى لرئيس الجمهورية. اذ سيبدو وكأنّه يدخل الى الثلث الثالث من ولايته مجرّداً من عدّة شغله»؟
يقود ذلك الى السؤال: «المصاعب» التي اشار اليها البيان الرئاسي ما زالت بلا حلّ، فهل ستكون استشارات الخميس أمام تأجيل جديد ريثما تُحلّ؟ أم سيتمّ تجاوزها، فتُجرى الاستشارات في موعدها؟ وإنْ قيض للاستشارات أن تجري في موعدها الخميس، بوجود «المصاعب» المحكي عنها، فما الجدوى من تأجيلها أصلاً، وتضييع أسبوع من عمر البلد وتأخير تأليف الحكومة؟
القراءات السياسية للمشهد الحكومي، تتقاطع عند اعتبار، انّ رئيس الجمهورية امام خيارات صعبة، وهامش تحرّكه ضيّق جداً، تبعاً لما يلي:
اولاً، لا يملك اي صلاحية يستطيع من خلالها أن يدفع الحريري الى سحب ترشيحه.
ثانياً، ألزم نفسه بتحديد موعد الاستشارات وصار مقيّداً به. فلو أنّه لم يحدّد موعداً من البداية الاستشارات لكان الامر اسهل عليه.
ثالثاً، أن يترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، وتُجرى الاستشارات في موعدها الخميس. ويكلَّف الحريري. ولهذا ثمنه السياسي السلبي لدى «التيار الوطني الحر».
رابعاً، أن يساير باسيل في موقفه، فيعمد إلى تأجيل ثانٍ لاستشارات الخميس. ولهذا ايضاً ثمنه، إذ سيؤكّد من جهة البعد الشخصي والعائلي للتأجيل، ومن جهة ثانية سيضع عون ومعه باسيل وتياره السياسي وحدهم في موقع المعرقل عمداً لتأليف حكومة المبادرة الفرنسية.
خامساً، جرّب التأجيل الأول لكن مردوده جاء عكسياً:
- لم يحرّك الأمور في اتجاه حلحلة ما سمّاها «مصاعب تستدعي الحلحلة»، وهي موجودة حصراً بين الحريري وباسيل، فكلاهما عبّرا عن حجم الفجوة العميقة بينهما، وحسما موقفيهما وبلغا نقطة اللاعودة.
- أوقع رئيس الجمهورية في إحراج أمام كلّ المكونات، سواء تلك التي تربطه بها خصومة سياسية، أو تلك المصنّفة صديقة أو حليفة. فجميعها أجمعت على «البعد العائلي» لقرار تأجيل الاستشارات، واعتبرته خطوة متسرّعة وغير موفّقة.
- اوقع رئيس الجمهورية في إحراج امام المبادرة الفرنسية وراعيها، وبيان وزارة الخارجية الفرنسيّة الصادر في الساعات الماضية، انطوى على كثير من اللوم لهذا القرار. فلقد بدا جلياً انّ مضمون هذا البيان صِيغ بلهجة غاضبة، واتهاماته المبطنّة لا تُخفى على أي قارئ سياسي، أنّها كانت تستهدف جهة وحيدة.
- «الناصحون» بالتأجيل كانوا يراهنون على انفعال الحريري، فيسحب ترشيحه لكنّه، بدل أن ينفعل ويُستفَز، صار مع قرار التأجيل أكثر تصميماً على ترشيحه، وضامناً تكليفه بأكثرية نيابية مريحة له.
- القائلون بغياب الميثاقية في التكليف جراء الإحجام المسيحي بشقيه القواتي والعوني، عن تسمية الحريري، اصطدموا بحقيقة تنسف هذه الذريعة، إذ انّ ما يقارب من ثلث النواب المسيحيين سيسمّون الحريري.
- القائلون بالميثاقية المناطقية، اصطدموا في كونها بدعة لا علاقة لها لا بالدستور ولا بالقانون ولا بأي عرف خارجهما، والسؤال الأهم هنا: اي نصّ دستوري يقول بالميثاقية المناطقية؟ الّا اذا كان هؤلاء يعتبرون «افكارهم» تتمتع بقوة الإلزام التي يتمتع بها النص الدستوري، ويتوجّب السير بها!
- الاسباب الموجبة التي استند اليها قرار التأجيل، بأنّه استجاب لطلب ارمني بالتأجيل لحلحلة «المصاعب»، بدت في رأي كثيرين عذراً اقبح من ذنب. وعلى ما يقول عارفون، فإنّ الأرمن انفسهم لم يبلعوا أنّ كتلتهم النيابية الثلاثية تمتلك قدرة الـ«كنّ فيكون»، وانّها تحتكم على الطلب المستجاب لها في استحقاق كبير لا مكان للأرمن فيه ولا دور أصلاً. الصورة الارمنية الحقيقية تتبدّى في ما قاله من نُسِب اليهم طلب التأجيل، يوم الاربعاء، اي قبل يوم واحد من استشارات الخميس المؤجّلة، لمن استمزج رأيهم لمعرفة وجهة التسمية الأرمنية في الاستشارات: «ما بقا فينا.. رح يخلص البلد، لازم تتشكّل حكومة، وبكرا نحن رايحين نسمّي، وعلى الارجح رح نسمّي سعد الحريري». معنى ذلك أنّ الأرمن لم يكونوا على علم بـ«طلبهم» تأجيل الاستشارات!
الى اين من هنا؟
حتى الآن، ما يصدر عن بعبدا يؤشر الى انّ الاستشارات ستجري في موعدها الخميس. الّا ان القراءات السياسية تجمع على أنّ المعركة ستنتقل من جبهة التكليف الى جبهة التأليف، وهذا معناه أنّ رحلة التأليف - المطلوب داخلياً ودولياً، أن تصل في أيام قليلة الى تشكيل حكومة مهمّة، تحت سقف المبادرة الفرنسية، تشرع في الإنقاذ والإصلاح - ستكون طويلة ومعقّدة، ولن يكون مفاجئاً خلالها إن قرّر رئيس الجمهورية، متسلحاً بتوقيعه، أن يلعب مع الحريري لعبة القط والفار، أو لعبة النطرة على الكوع، مع اي تشكيلة يطرحها. أو يحاول فرض مطالب معينة كتوسيع الحصّة الرئاسية كتعويض عن غياب التيار - إن بقي التيار مصراً على عدم المشاركة في الحكومة - وبهذا يصبح التيار في المعارضة ومشاركاً فيها عبر رئيس الجمهورية في آن معاً.