ظنّ كثير من المراقبين أنّ عودة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون المتجدّدة في سياق إعادة إنعاش مبادرته تجاه لبنان، ستؤدي الى فتح كوة في الجدار السميك للأزمة الحاصلة، خصوصاً بعد الإشارات الاميركية حول نية ادارة جو بايدن منح دعمها الواضح للرئيس الفرنسي.
بالفعل، تحرّكت الخطوط الخارجية، وايضاً نشطت الحركة في الكواليس اللبنانية، لكن مرة جديدة بدا أنّ الحسابات الخاصة للأطراف اللبنانية المعنية تبدو عائقاً قوياً أمام إنتاج الحلول.
في الواقع، ثمة إقتناع بدأ يترسخ لدى المعنيين بالشأن اللبناني، مفاده أنّ هنالك من يدرك أنّ إجهاض المخارج المطروحة سيؤدي الى الاندفاع اكثر فأكثر نحو الفوضى الشاملة، وهو ما يسعى اليه، ظناً منه انّ مكاسبه لن تتحقق سوى عبر هذا المسار. إذ لا يُعقل أن يكون قابلاً للتصديق أن تكون العِقَد المطروحة هي التي تقف فعلاً أمام الولادة الحكومية، في ظلّ الانهيار المستمر للواقعين الاقتصادي والمعيشي، والتي فاقم من حدّتها ومآسيها آثار فيروس كورونا الذي ضرب نظام الرعاية الصحية وجعله يقف على شفير الانهيار التام. فلبنان الذي لعب دور مستشفى الشرق الاوسط، هاجرته نخبة اطبائه وتراجع مستوى خدماته، اضافة الى النقص الحاصل في الأدوية والأسرّة والاوكسيجين. ووسط هذه الكوارث من غير الممكن الاقتناع للحظة بأنّ نزاع الإنقاذ هو حول حقيبة لهذا أم ذاك.
البعض بات يعتقد أنّ رئيس الجمهورية يريد من خلال ازمة تشكيل الحكومة إعادة انقاذ مستقبل جبران باسيل السياسي، ان لناحية منحه اوراق قوة، او لناحية الضغط على واشنطن بالتعاون مع «حزب الله» وايران لإزالة العقوبات الموضوعة عليه. ويسمع زوار باسيل منه قوله بكل وضوح، رهانه على أنّ العقوبات الاميركية الموضوعة عليه ستزال في مدة تتراوح بين ثلاثة واربعة أشهر.
وفي المقابل، فإنّ الرئيس سعد الحريري يسعى ايضاً ومن خلال التشكيلة الحكومية، إبعاد الوزارات الحساسة عن باسيل، والتي قد يستخدمها ضدّه مثل وزارة العدل. وهو ايضاً يريد اعادة البريق الى نفوذه الشعبي في الشارع السنّي، والتعويض عن علاقته الباردة مع السعودية، والتي لطالما شكّلت مظلته الاقليمية.
من هنا مثلاً، يعمل الحريري على إعادة بناء مظلة سنّية اقليمية من خلال زياراته اللافتة للامارات وتركيا ومصر وربما السعودية، اضافة للتحضير لزيارتين الى فرنسا وروسيا. وخلال الايام الماضية، تلقّى الرئيس الفرنسي خيبة امل جديدة، بعدما عوّل بعض الشيء على المرونة المستجدة لـ»حزب الله» في المسألة الحكومية.
من هنا، فإنّ هنالك من بدأ يتساءل عمّا اذا كان خيار الذهاب الى الفوضى الشاملة هو قرار قد اتُخذ عن سابق تصور وتصميم، كونه السبيل الافضل لتحصيل مكاسبه السياسية. لكن المشكلة امام الرئيس الفرنسي، هي أنّ حرية حركته في اتجاه الملف اللبناني ليست مفتوحة، لا بل على العكس.
ففي الداخل الفرنسي تحدّيات كبيرة امام ماكرون، ابرزها على الاطلاق التحدّيات الاقتصادية والمعيشية والصحية بسبب آثار جائحة كورونا. وعلى سبيل المثال، قرّر الرئيس الفرنسي عدم اخذ البلاد الى اغلاق شامل جديد رغم تفشي الوباء بسلالته الجديدة السريعة الانتشار. وحاول ان يضع الاقتصاد في الاولوية، وهو رهان قد ينتج منه مخاطر كبيرة، خصوصاً وأنّ المدة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية لم تعد تتجاوز الـ 15 شهراً، حيث بات مرجحاً ان يواجه ماكرون زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي ازداد حضورها خلال الفترة الاخيرة.
صحيح أنّ هذا السيناريو هو الافضل بالنسبة الى ماكرون، حيث رفض الفرنسيون دائماً وصول المتطرفين الى الحكم، لكن ارقام الاستطلاعات لا تبدو مريحة. ففي آخر الارقام ابدى 36% فقط من الفرنسيين ثقتهم بطريقة تعامل السلطة مع ازمة كورونا في مقابل 64%.
وهو ما يعني انّ ماكرون المحاصر بالأزمات الداخلية، يسعى الى قضية رابحة في لبنان، لا لخيبة امل اضافية تفاقم من ازماته الداخلية. وهو ما يعني انّ تقدّمه الجديد سيكون اكثر حذراً وتأنياً. واذا ما اقتنع الرئيس الفرنسي بأنّ ثمة من يريد الاندفاع في اتجاه الفوضى الشاملة عن سابق تصور وتصميم، فهذا سيجعله كثير الحذر والتردّد.
ولكن، هل انّ «تهشيل» الفرنسيين سيُلزم الاميركيين بتعديل موقفهم والدخول مباشرة على خط الأزمة اللبنانية منعاً لانفجار الوضع وتشظي الساحات المحيطة بلبنان؟
لا توافق الاوساط الديبلوماسية العليمة هذه القراءة، فالواضح انّ ادارة بايدن اتخذت قرارها الثابت والمبني على رؤيتها العامة في الشرق الاوسط وخصوصاً المفاوضات مع ايران، بأن لا تقترب مباشرة من الملف اللبناني في هذه المرحلة على الاقل.
وكان ذلك واضحاً من خلال تصريحات مختلف المسؤولين الاميركيين المعنيين بملف الشرق الاوسط، ولا سيما منهم الرئيس الاميركي ووزير خارجيته ومستشار الامن القومي، حيث لم يتلفظ اياً منهم بكلمة لبنان. وهذا له معناه الواضح. فيما يبدو انّ فريق بايدن لا يريد الاقتراب من اي تسوية مع «حزب الله» الّا بعد إنجاز التفاهم مع ايران حول كل ملفها النووي، والاهم ملف نفوذها في المنطقة، والذي يشمل بدرجة اولى «حزب الله» في لبنان.
وفي الوقت نفسه لا تحبذ واشنطن انفجار الوضع في لبنان وذهابه الى الفوضى الشاملة، مع ما يعني ذلك تحلّل الدولة اللبنانية وتفتيت مؤسساتها، وهو ما يحاول البعض التهويل عليها به كما تعتقد هذه الاوساط.
ولذلك، قد تكون واشنطن اقرب الى حلول اخرى للبنان، ستؤدي مع الأسف لوضعه تحت رعاية خارجية ولو من الناحية السياسية فقط. وفي الواقع تندفع واشنطن في لعبة اعادة ترتيب الخريطة الجيوسياسية في الشرق الاوسط من باب إنجاز تفاهم عميق ومحدّد مع ايران.
وبخلاف ما تردّد سابقاً، فإنّ ادارة بايدن تعمل لإنجاز التفاهم النووي مع ايران قبل حزيران المقبل موعد الانتخابات الرئاسية الايرانية. وعلى ما يبدو، لم تعد «السياسة الواقعية» لواشنطن مكترثة بمساعدة «الاصلاحيين» في ايران، لا بل انّ نظرية وصول المتشدّدين الى السلطة سيكون افضل، لأنّ هؤلاء قادرين على اتخاذ الخطوات من دون تردّد، هي التي باتت سائدة اليوم. ومعه لا بدّ للوضع اللبناني ان يجري ترتيبه ايضاً قبل حزيران المقبل. والمقصود هنا اعادة لملمة اشلاء الدولة اللبنانية للانطلاق في مسيرة الإصلاح الموجعة والمؤلمة.
وهو ما سيفتح الباب امام دور حازم لروسيا في لبنان، يكون مكمّلاً لدورها في سوريا. فهي نجحت في التقاط كثير من الاوراق على الساحة السورية ما يجعل كلمتها، وربما سطوتها، اقوى في لبنان، اي العودة الى حقبة «القناصل».
وبالطبع هذا سيُفقد الحركة الداخلية اللبنانية هامشاً واسعاً تمتعت به الطبقة السياسية، ولكن لبناء وتأمين مصالحها الخاصة، وليس ابداً المصلحة العامة، وهي اثبتت ولا تزال عن عدم نضج واهلية في ادارة البلد.
في صيف العام 1989 وفي عزّ «حرب الإلغاء» في لبنان، اجتاح صدام حسين الكويت، يومها قرأ العماد ميشال عون الخطوة لمصلحة محوره، وهو الذي كان على علاقة تحالفية مع العراق. لكن الواقع، انّ اجتياح العراق شكّل فرصة لسوريا نالت ثمنها في لبنان، من خلال ازالة الخطوط الحمر واجتياح المنطقة الشرقية.
اليوم، ومع رحيل دونالد ترامب، هنالك من يقرأ خطأ معنى وصول جو بايدن الى البيت الابيض. نحن في النهاية سمك صغير وسط محيط كبير. والمشاكسة والتهور يقودان الى الهلاك. ربما من الافضل والأجدى الإتعاظ من دروس تجاربنا القاسية والصعبة، لا ان نكرّرها بوسائل وظروف مختلفة.