من المنطقي الّا يعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون استسلامه وخسارته في لبنان. هو قال بوضوح، بعدما طرح مبادرته للبنان، إنه غامَر ووضع رصيده السياسي كله على الطاولة اللبنانية.
وبات معروفاً انّ احد أسباب اندفاعته في لبنان وَضع حزبه السياسي داخل فرنسا، وبالتالي فإنّ إقراره بالاستسلام في لبنان سيعني خسارة كاملة لفرنسا في الشرق الاوسط حيث النزاع القائم شرقي البحر الابيض المتوسط، وخسارته السياسية في فرنسا والتي ستعني حتماً طَي صفحته لفترة طويلة. وبالتالي، فإنّ ماكرون لا يستطيع الخروج من اللعبة اللبنانية التي أضحى في تفاصيلها المعقّدة، وهو غير قادر على الانسحاب بسهولة كما فعل قبله فرنسوا ميتران والى حدٍّ ما جاك شيراك.
لكنّ الواقعية تقضي بالاعتراف بأنّ المبادرة الفرنسية تلقّت ضربة قوية مع إعلان الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى اديب اعتذاره، وهو ما أدى الى دخول لبنان في أزمة مفتوحة وقاسية لا احد يستطيع ان يتكهّن بمداها.
في الواقع لا تبدو خيارات ما بعد الاعتذار سهلة، ذاك انّ اعادة تكليف شخصية سنية تحظى بغطاء سياسي سني من خلال الرؤساء السابقين أصبح صعباً في ظل السقف الذي رَسمه اعتذار اديب، والذي سيصعب على أي شخصية سنية خَرقه حتى ولو كان الرئيس سعد الحريري نفسه او احد اعضاء نادي الرؤساء السابقين للحكومة. والخيار الثاني بالذهاب لتكليف شخصية سنية لا تحظى بالغطاء السياسي السني ولا بالغطاء السعودي بطبيعة الحال، فهذا يعني الاتيان بشخصية سنية تنتمي الى الفريق المتحالف مع "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" او بتعبير أوضح بنسخة مكررة عن حسان دياب وحكومته.
والنتيجة ستكون مشابهة لحكومة دياب التي عانت كثيراً، وسرعان ما سقطت تحت وطأة الخصومة مع الشارع.
امّا الاحتمال الثالث، والذي يهمس به البعض والقاضي بإعادة تعويم حكومة حسان دياب، دونه محاذير قانونية وهرطقات دستورية. فرئيس الحكومة قدم استقالته وكان قد سبقه الى ذلك العديد من الوزراء، وجرت تسمية رئيس حكومة جديد بعد استشارات ملزمة، ومن ثم استشارات أخرى للوقوف على رأي الكتل النيابية.
أضف الى ذلك تمسّك دياب باستقالته وترداده امام زواره بأنه لم يعد "يطيق" البقاء في السرايا الحكومية، وينتظر ولادة الحكومة الجديدة كي يستطيع السفر الى الولايات المتحدة الاميركية حيث نجله. ووفق هذه المعطيات تبدو الصورة صعبة والأفق مقفل رغم أنّ الاوضاع الاقتصادية والمالية كارثية، ويزيد من خطورتها الانتشار الهستيري لفيروس كوفيد-19 وتصاعد الخطر الارهابي، والذي يجد في الظروف الحالية للبنان ظروفاً مثالية للتحرك وتنفيذ عملياته. ولا شك انّ الجميع مدرك للوضع الفائق الخطورة الذي دخل إليه لبنان.
ومعه يصحّ السؤال: لماذا جرى التعاطي مع ملف تشكيل الحكومة بهذا التعنّت وهذه القساوة؟ ألم تكن الظروف الخطيرة تحتّم على الاقل تراجع كل فريق ولو خطوة واحدة الى الوراء؟
الغالب بأنّ الخالفيات التي كانت تقف وراء عقدة وزارة المال كانت أبعد من النقاش الصاخب الذي احتلّ صدارة وسائل الاعلام. فهنالك مَن بات على قناعة بأنّ القرار كان بعدم ولادة الحكومة على الاقل من الآن وحتى موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية وتبيان هوية الفائز، ولو أنّ الحسابات حول استمرار أديب في مهمته وتَريّثه في تقديم اعتذاره لم تصحّ.
ففي خضمّ العاصفة الاعلامية التي تمحورت حول عقدة حقيبة المال، غاب عن بال اللبنانيين إشارتان في غاية الاهمية، ويمكن أن تقدما أجوبة لأزمة الحكومة اللبنانية. الاشارة الاولى تتعلق بالخطاب الذي ألقاه مرشد الجمهورية الايرانية السيّد علي خامنئي خلال الاجتماع السنوي لقيادات الحرس الثوري، وهذا الخطاب اضافة الى خطاب عيد النوروز، يشكّل محطة اساسية تتولى الدوائر الاميركية ومراكز الدراسات تحليله بتأنٍ لِما يمكن ان يتضمن خطوطا عريضة للسياسة الايرانية.
ففي العالم 2013 ركّز السيد خامنئي على المرونة البطولية مُمهّداً لتوقيع طهران على الاتفاق النووي بعد مدة قصيرة. أما خطاب العام الماضي، فاتخذ نبرة المواجهة حين تحدث عن إمكانية التعامل مع الضغط الاميركي.
وفي خطابه الاخير، والذي تولى عومير كرمي في معهد واشنطن للدراسات مهمة قراءته وتحليله، لم يتطرق الى اعادة فرض واشنطن سلسلة عقوبات على ايران لا بل على العكس تحدث عن الدروس المُستقاة من الحرب مع العراق وأخذ العبر منها للاتّعاظ في المرحلة الراهنة.
فهو رغم حديثه عن انّ المقاومة للعدوان هي قوة واحترام، الا انه اعاد التذكير بالقرار الذي اتخذه الامام الخميني بقبول وقف اطلاق النار مع العراق عام 1988 وفق عبارته الشهيرة بتجرّع السم.
السيّد خامنئي أشاد بقرار سلفه باعتباره حكيماً وحذراً ومسؤولاً، فاتحاً بذلك الباب امام التسويات بشأن القضايا الصعبة متى كان وضع الدولة على المحك. وكذلك، لفتت خطب أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله خلال عاشوراء، والتي استذكر خلالها الحسن غير مرة. والمعروف عن الحسن بأنه رمز التسوية لا الحرب.
وفي الاطار نفسه لفت ايضاً تأجيل واشنطن سحب قواتها من العراق بشكل كامل، حيث سيتم الابقاء على حوالى 3 آلاف جندي، اعتبر الجنرال كينيت ماكينزي قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي بأنّ مهامها هي لكبح نفوذ ايران.
وفي سوريا ايضاً جرى اضافة حوالى 100 جندي متخصّص لحراسة حقول النفط والقيام بدوريات في مناطق محددة مع الاكراد. في الواقع تتولى هذه القوى مراقبة طرق التواصل البري بين ايران ولبنان وهو ما يتولاه مثلاً حوالى 200 جندي اميركي في قاعدة التنف.
امّا الاشارة الثانية فتتعلق بإنجاز الاتفاق على اطار ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، وحيث كشفت وسائل الاعلام الاسرائيلية عن إمكانية الشروع بالمفاوضات منتصف الشهر المقبل. ووفق مصادر ديبلوماسية اميركية فإنّ مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد شينكر والمتخصّص بهذا الملف سيزور لبنان قريباً جداً، وهو متفائل بإحراز النتيجة المطلوبة.
وخلال زيارته الاخيرة الى بيروت، والتي تجنّب فيها لقاء اي مسؤول رسمي لبناني بشكل مباشر، عاد شينكر الى واشنطن بانطباع ايجابي وبأنه لمسَ مرونة لبنانية من جانب الفريق الشيعي، الذي أبدى استعداد لبنان للدخول في مفاوضات حول هذا الملف اكثر من اي وقت مضى.
وراجَ يومها انّ شينكر التقى بعيداً عن الاعلام موفداً للرئيس نبيه بري، وقيل انّ واشنطن قررت السير بهذا الملف الآن، بعد الانفجار المزلزل لمرفأ بيروت والتأثيرات الداخلية الهائلة الناجمة عنه، إضافة الى الانهيار الاقتصادي واخيراً الازمة الحكومية.
ماذا يعني كل ذلك؟
الأرجح انّ القنوات الخلفية كانت ناشطة كلما اشتدت الازمات الداخلية اللبنانية.
فبالنسبة لخط واشنطن - طهران، هنالك الكثير من الكلام في الكواليس. ففي حال فوز المرشح الديموقراطي جو بايدن، فإنّ النتيجة مُعلن عنها سلفاً بالعودة الى الاتفاق النووي وإعادة فتح باب التفاهمات في المنطقة.
وفي حال عودة دونالد ترامب، فإنّ التفاهم والاتفاق هو ما سيحصل، وانّ التحضيرات لذلك بدأت منذ الآن. ويُروى انّ ترامب سيعيد تركيب فريقه المعاون، حيث سيحظى صديقه اللبناني الاصل توم باراك بدور أقوى هذه المرة.
والاهم انّ العاصمتين الاميركية والايرانية تدركان جيداً انّ دوائر القرار الاميركية في صدد إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للشرق الاوسط، ومعه إعادة تركيب الانظمة السياسية لسوريا والعراق، ولِم لا لبنان. من هنا، فإنّ ازمة الحكومة اللبنانية او القرار بعدم ولادتها يهدفان الى تعميق الازمة الداخلية وتفكيك ما تبقى من صورة اتفاق الطائف لدفع الامور باتجاه المؤتمر التأسيسي واعادة صياغة نظام سياسي جديد للبنان، كان الرئيس الفرنسي نفسه قد أعلن عن ذلك خلال زيارته الاولى الى بيروت.
وتأتي المرونة في ملف ترسيم الحدود البحرية حيث البلوك رقم 9 والتقديرات حول وجود احتياط كبير للغاز الطبيعي، كمقدمة للتعاطي بمرونة مع المطالب الاميركية. إنها لعبة الامم التي لا يحسن كثيرون قراءتها.