سيكون فصل الشتاء هذه المرة طويلاً، سيبدأ باكراً مع اقفال صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الاميركية، وهو لن ينتهي قبل فتح صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس ايراني جديد في حزيران. وما بينهما، احتمال الدعوة لانتخابات اسرائيلية مبكّرة للمرة الرابعة على التوالي خلال سنتين.
والواضح، انّ هذا الشتاء يرتبط بما لا شك فيه بنتائج الاستحقاق الرئاسي الاميركي. في الداخل الاميركي، فوضى الصراع الانتخابي تطغى على كل ما عداها. الفريقان الجمهوري والديموقراطي يسودهما القلق والتوتر. فكل المفاجآت واردة رغم ارقام استطلاعات الرأي.
حملة الرئيس الاميركي دونالد ترامب انتعشت قليلاً، بعد تحقيقها بعضاً من التقدّم على مستوى شريحة المترددين، خصوصاً في ولاية فلوريدا المهمة، والتي على ما يبدو اصبحت تميل لصالحه ولو بفارق ضيّق.
ذلك انّ المناظرة الثانية بين ترامب ومنافسه جو بايدن ساهمت في دفع المتردّدين خلف ترامب.
صحيح انّ حوالى 90% من الناخبين قالوا انّه لا توجد احتمالات قد تدفعهم الى تغيير موقفهم، الّا انّ للتأثير على النسبة المتبقية اهمية فائقة. هكذا فاز ترامب منذ 4 سنوات، رغم خسارته على مستوى مجموع الناخبين بحوالى ثلاثة ملايين صوت، مع فارق انّ مؤيّدي ترامب ملتزمون به اكثر من مؤيّدي بايدن، لا بل انّ ناخبي ترامب متحمسون له اكثر من العام 2016.
ووفق استطلاع «واشنطن بوست» ومحطة ABC على سبيل المثال، فإنّ 71% من مؤيّدي ترامب متحمسون للغاية للاقتراع له، في مقابل 44 % قبل 4 سنوات. واللافت، انّ 42 % من الذين يؤيّدون بايدن هم يقترعون فعلياً ضد ترامب، والذين يشكّلون الشريحة الأكثر حماسة من مجموع ناخبي بايدن. عمليات التصويت المبكر اظهرت من دون اي شك، بأنّ الحماسة مرتفعة بشكل عام، حيث شارك الناخبون الاميركيون بأكثر من 6 اضعاف عمّا حصل في انتخابات العام 2016.
لكن ثمة فوارق لا بدّ من التوقف عندها، ذلك انّ نسبة اليهود الذين سيقترعون لصالح بايدن ارتفعت من 67 % الشهر الماضي الى 75%، مقابل 22 % لترامب. اما المسلمون الاميركيون، والذين يشكّلون حوالى 1 % من الاميركيين، فسيقترع 18% منهم لصالح ترامب، ربعهم من المسلمين القادمين من الشرق الاوسط. ولا بدّ من ان نتذكر دائماً، انّ الرئيس السابق جورج دبليو بوش كان قد فاز في العام 2000 بولاية فلوريدا المهمة بفارق 533 صوتاً فقط. فيما يتطلع ترامب لتكرار سيناريو العام 2016، وهو ما يخشاه الديموقراطيون.
لكن المتاعب الاميركية قد لا تنتهي، مع فرز سيطول واعلان متأخّر للنتائج الرسمية. فالخشية من حصول مضاعفات، مع الحدّة التي تشهدها الحملات الانتخابية والتلميحات الصادرة عن ترامب، برفض النتيجة في حال خسارته بفارق بسيط، واتهام اخصامه بالتزوير، ولذلك جرى تعميم مذكرات داخلية على الشرطة الاميركية، بالاستعداد للتعامل مع احتجاجات وشغب محتملين بعد اعلان النتائج. كذلك وضع احتمال الاستعانة بالجيش للغاية نفسها.
وتردّد ايضاً انّ ترامب، الذي استفاد عام 2016 من اعلان مدير مكتب التحقيقات الفدرالية بإعادة فتح التحقيق في استخدام هيلاري كلينتون لبريدها الالكتروني الخاص، وذلك قبل 11 يوماً فقط من الانتخابات، وهو ما أثّر سلباً على كلينتون، يريد شيئاً مماثلاً من مدير مكتب التحقيق الفدرالي الحالي كريستوفر راي، حيال مخالفات وتجاوزات هانتر بايدن، نجل المرشح الديموقراطي. لكن راي، الذي رفض الطلب، يواجه احتمال اقالته بعد الانتخابات فوراً.
لكن اياً كان الفائز بالسباق الرئاسي الاميركي، فإنّ الانسحاب العسكري الاميركي من الشرق الاوسط سيأخذ طريقه الى التنفيذ. فالديموقراطيون والجمهوريون على السواء يريدون ذلك. فعدا انّ الاميركيين سئموا حروب الشرق الاوسط التي لا نهاية لها، فإنّ هذه الساحة ذاهبة الى تبدّلات كبيرة وعميقة، واصطفافها في اطار صراعات جديدة ومن نوع آخر، ما يوجب الاحتراس الاميركي منها، في موازاة الامساك بمفاصلها من بعيد، واحكام القبضة على خيراتها.
فالاقتصاد الاميركي يعاني كثيراً بسبب كورونا، في وقت يتحدث فيه صندوق النقد الدولي عن هبوط في الاقتصاد العالمي، وازدياد الانكماش العالمي وتكثيف القيود التجارية. وهو يعتبر انّ العالم دخل اسوأ ركود اقتصادي منذ 90 عاماً.
وسيكون هذا الركود الاقتصادي حاضراً في خلفية اعادة ترتيب المنطقة، الى جانب المصالح السياسية، وتحت سقف الاندفاعة الاميركية، لاحتواء التقدّم الصيني البطيء على المسرح الدولي.
وما يجري الآن في المنطقة يدخل في اطار إنضاج خارطة النفوذ مستقبلاً. فبعدما رزح الشرق الاوسط، بدءاً من انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحت وطأة متطلبات الصراع مع اسرائيل، فهو يدخل اليوم الى اصطفافات جديدة، وتحت عنوان التصارع بين اقطاب ثلاثة: اسرائيل، ايران وتركيا.
وبعدها، ستعمل واشنطن على اخراج الصين من كامل المساحة الاقتصادية الشرق اوسطية. فهي ستتولّى ادارة توازنات هذا التصارع لعقود عدة الى الامام وعلى اساس تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية.
وهي لذلك باشرت صياغة تفاهمات مشتركة مع روسيا، التي ستجعل من سوريا قاعدة ارتكازها. وتعمل على تحضير الساحة لتأمين موجبات التفاهم مع ايران، اياً يكن الفائز في الانتخابات الرئاسية الاميركية. وهي ستلتزم عدم تهديد النظام القائم في ايران، لا بل التناغم معه احياناً، في مقابل التفاهم حيال مصالح كلا البلدين في المنطقة.
وقد تذهب واشنطن لاحقاً، وتحت وطأة ازمتها الاقتصادية، الى السعي لتخفيض سعر النفط عالمياً، في مقابل إمساكها بالثروة الغازية البحرية. وعلى سبيل المثال، لفت سعي مجموعة تركية اقتصادية للتقدّم الى مناقصة استثمار ميناء حيفا، بعدما نجحت واشنطن في دفع الحكومة الاسرائيلية لإخراج الصين، التي كانت راغبة بذلك. كما تنوي شركة «موانئ دبي العالمية» التقدّم الى هذه المناقصة وفق وكالة «بلومبرغ» الاميركية.
ولبنان المعني مباشرة بكل هذه المشاريع، سيحظى بسياسة اميركية متشابهة تقريباً، اياً كان الفائز بالسباق الرئاسي الاميركي، مع فارق وحيد وهو الوقت والمدة الزمنية. لذلك، اصرّت واشنطن ورغم انشغالاتها الداخلية، على بدء مفاوضات الترسيم للحدود البحرية اللبنانية، والتي ستليها كامل الحدود البرية جنوباً وشمالاً وشرقاً. لكنها بحاجة لحكومة للإشراف على ما هو حاصل.
ولذلك ايضاً، تبدي فرنسا، رغم ازمتها الداخلية، اهتماماً بموضوع اعادة اعمار مرفأ بيروت، وهي التي تضغط ايضا لولادة حكومة تحمل مهمة ترتيب الوضع. ولذلك ايضاً، تريد روسيا استقراراً سياسياً في لبنان، خصوصاً بعدما وصل سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، والذي تبدي موسكو اهتماماً استثنائياً به.
وقيل انّ الإيجابية المفاجئة التي حلّت على المسؤولين اللبنانيين والمرونة الواضحة لمواقفهم، انما ترافقت مع تفاهم خارجي حصل بين باريس وموسكو وواشنطن، ويرتكز على ضرورة حصول لبنان على فترة سماح، تسمح بترتيب ساحته الداخلية، من اجل تنظيم الخطوات المطلوبة من قبل الحكومة، وتحضيره جيداً لمرحلة المفاوضات، التي تشبه الى حد بعيد مرحلة سايكس - بيكو مطلع القرن الماضي.
مع التأكيد مجدداً، بأنّ الواقع الجديد هو بتقاسم النفوذ، ولرسم خارطة جيوسياسية جديدة، من دون المسّ ابداً بالحدود الجغرافية القائمة، والتي رسمها اتفاق سايكس - بيكو، رغم انّ التاريخ ودروسه يفرضان علينا الّا نبالغ في التفاؤل. ففي نهاية الأمر، نحن في لبنان، حيث المفاجآت واردة عند كل لحظة، والمصالح الخاصة للطبقة السياسية اللبنانية تبقى دائماً فوق كل اعتبار.