ليس تفصيلاً ان يرسل رأس الكنيسة الكاثوليكية رسالة الى اللبنانيين في عيد الميلاد. هي سابقة تعكس حجم القلق الذي ينتاب الفاتيكان حيال المستقبل القاتم للبنانيين.
وعدا الخطوة بحدّ ذاتها، فإنّ الكرسي الرسولي تعمّد توجيه رسالتين نافرتين، الاولى بأنّه وجّه الرسالة الى رئيس الكنيسة المارونية وليس الى رئيس الدولة الماروني، وهو بذلك اراد الإيحاء، بأنّ المواقف الانتقادية المتتالية للبطريرك الراعي تحظى بدعم الفاتيكان. وقد تكون ايضاً نابعة من روحية اللقاء الذي حصل في روما بين البابا والبطريرك. والثاني، وهو مضمون الرسالة وأهم ما جاء فيها انتقاد، وربما اكثر من انتقاد، السعي لإعطاء الاولوية للمصالح الخاصة، وهو عاد وكرّر كلامه هذا في عظته الرسمية في القداس الاحتفالي لعيد الميلاد وكان واضحاً ماذا يقصد.
في الواقع، فإنّ في رسالة قداسة البابا ما يشبه فقدان الامل، الأهم البحث عن مكاسب خاصة وسط مخاطر وجودية تتهدّد آخر مواقع المسيحيين في الشرق الاوسط. وتكشف مصادر مطلعة، انّ الكرسي الرسولي لم يكتف برسالة التحذير القوية التي ارسلها، بل طلب من الجسم الديبلوماسي الفاتيكاني البدء بحملة اتصالات لمعالجة المخاطر الوجودية التي تلوح في لبنان.
وقد طالت هذه الاتصالات ايران نفسها، اضافة الى عواصم كبرى ومنها مع الرئيس المنتخب جو بايدن، وهو الذي ينتمي الى الطائفة الكاثوليكية. لكن الادارة الاميركية المقبلة، والتي تتحضر لاستلام مهامها في العشرين من الشهر المقبل، لا تملك حتى الآن اي تصور واضح لكيفية التعامل مع الملف اللبناني، لا بل وحتى الملف السوري. ذلك انّ التحدّيات تحاصر هذه الادارة، بدءاً من التحدّيات الداخلية والانقسامات الحادة، والتي بلغت مستوى جديداً لم تألفه الحياة السياسية الاميركية، وصولًا الى تحدّيات السياسة الخارجية والرهانات المطروحة.
احدى اهم هذه التحدّيات على الاطلاق هي المقاومة الصينية للزعامة الاميركية للعالم. فعلى سبيل المثال، وفي آخر الدراسات المثيرة للقلق للاميركيين، التوقعات بأن يتجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الاميركي في العام 2028، اي قبل 5 سنوات من التوقعات التي رُسمت سابقاً. وأنّ السبب يعود الى التداعيات الناتجة من جائحة كورونا والتي فرضت اغلاق الاقتصاد الاميركي والاوروبي. وعدا انّ الصين تعاملت بشكل افضل مع كيفية احتواء تفشي الفيروس، الّا انّ الدول الغربية عانت من اضرار كبيرة، اثرت بشكل عميق في النمو البعيد الأمد لاقتصادهم.
والصين التي تتحضر جيداً لحربها الباردة مع الولايات المتحدة الاميركية، تعمل على تركيز خطوط دفاعها العالمية لإجهاض السعي الاميركي لاحتواء قوتها التصاعدية. وأحد خطوطها الدفاعية تراها في نجاح ايران في منع الاميركيين من إحكام نفوذهم على منطقة الشرق الاوسط. وطهران التي تتقاطع مع بكين في العديد من التفاهمات المشتركة، تدرك اهمية موقعها في الصراع العالمي الكبير. وهذا يعني مسألة واحدة، وهي، بأنّ شدّ الحبال بين واشنطن وطهران سيكون كبيراً وصعباً جداً. وعلى سبيل المثال، لفتت الزيارة التي قام بها منذ ايام قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الايراني الى جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى في مياه الخليج، والمتنازع حولهما مع الامارات. ذلك انّ ايران تصرّفت دائماً على انّ امن دول الخليج المحاذية لها هي نقطة قوة عسكرية لها. في المقابل، اشارت التقارير الى انّ الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل ارسلتا غواصات تمركزت بالقرب من الساحل الايراني.
كذلك، فإنّ اسرائيل والتي دشنت تطبيعاً مع دول خليجية هو اقرب الى التحالف منه الى العلاقة الطبيعية، أجرت تدريبات لدفاعها الجوي، وصفت بأنّها غير مسبوقة ولم تشهدها من قبل، لإظهار قدرتها على احباط هجوم صاروخي ايراني، او من خلال استخدام الطائرات المسيّرة عن بُعد، والتي باتت تشكّل ورقة قوة جديدة لمجالها العسكري. ولوحظ ايضاً موافقة الكونغرس الاميركي أخيراً على تقديم دعم لبرنامج اسرائيل حول دفاعها الصاروخي بقيمة 500 مليون دولار. وللتذكير، فإنّ هذه الموافقة حصلت في المرحلة الرئاسية الانتقالية في واشنطن، والتي تشهد الكثير من الصراعات غير المألوفة في الحياة السياسية الاميركية.
وفي اسرائيل ايضاً انتخابات رابعة خلال سنتين، لكنها ستكون على ما يبدو الاكثر اثارة، حيث بدأ البعض يشمّ رائحة التغيير الرئاسي الاميركي بالتطورات في اسرائيل. فالناخبون الاسرائيليون سيذهبون الى صناديق الاقتراع بعد شهرين فقط على دخول جو بايدن الى البيت الابيض. لكن الاهم هذا «النزوح» الحاصل من حزب الليكود لقيادات مهمة، ما سيجعل الانتخابات المقبلة بمثابة المقامرة السياسية لبنيامين نتنياهو للمرة الاولى منذ اعتلائه خشبة المسرح السياسي في اسرائيل.
وسط كل هذه التحدّيات والاستحقاقات تدخل الساحة اللبنانية الصغيرة والممزقة الى اللعبة الكبيرة، من خلال نافذة استحقاق ولادة الحكومة. وهي النقطة الاساس التي تقض مضجع القوى الحريصة على لبنان وعلى مصير التنوع الطائفي فيه.
ولا شك انّ هذه النقطة هي التي دفعت بالكرسي الرسولي الى اطلاق صرخة «فقدان الامل»، مرفقة بالعبارة الاهم، وهي بعدم وضع الاولوية للمصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، ومن دون الإتعاظ من دروس الماضي المحزنة والصعبة.
يُروى انّه في عالم «الميسر» يصدف دائماً أن يأتي احدهم وهو مقتدر الى حدّ بعيد. وكما هي العادة، فإنّ المنخرط في هذه اللعبة يفقد رشده على امل الربح الهائل، فيندفع غارقاً في لعبته وهو يعمّق من خسائره حتى يخسر كل رصيده. وفيما يدرك انّه فقد كل شيء، يسقط في وهم التعويض، وبأنّ ممكناً ذلك في جولة اضافية، فيرهن منزله وعفشه واحياناً عائلته، ليحصد الخيبة المطلقة. وتُروى حكايات كثيرة عن خروج المقامر من صالة اللعب وهو يجرّ اذيال الخيبة لينتهي به المسار منتحراً.
هي قصص من الحياة اليومية ولكن المبنية على الوهم.