بقلم:مشاري الذايدي
هناك تقاليد وعالم خاص يحف بعض الأماكن ذات الطبيعة الفريدة، ومن ذلك، بل أبرز ذلك في الأرض السعودية، المسجد النبوي في المدينة المنورة وما يصاقبه.
مؤخراً لفتت الانتباه صورة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهو يزور المسجد النبوي والحجرة النبوية، كانت اللقطة لولي العهد وهو يسلم على شيخ جالس على كرسيه المتحرك، بزي لا مثيل له، يتذكر هذا الزي من زار الحرم النبوي أو المكي في سالف السنوات... إنه شيخ من «الأغوات».
شيخ مسن يمثل «آخر» جيل من أجيال الأغوات التي تواترت على خدمة المسجدين النبوي والمكي طيلة قرون ذات عدد، ويعيد الباحثون نشأة هذا التقليد العريق إلى عهد الدولة الأيوبية، بالنسبة لأغوات المدينة، ويرى آخرون أن أغوات مكة أقدم عهداً بكثير، ربما إلى العصر العباسي الأول أو الأموي حتى.
لفظة «آغا» مشهورة في اللغة التركية والفارسية والكردية، وتقريباً هي لقب تكريم وتفخيم بمعنى السيد أو الرئيس أو المسؤول الأول، لكنها صارت في السياق الحجازي علماً على هذه الفئة من العاملين في الحرمين.
باختصار، فئة من البشر يخصصون للخدمة المتنوعة في المسجدين، كانوا يجلبون من أكثر من بلد، ويتصدق بهم السلاطين، أيام الرق، ثم انحصر منبعهم من البلاد الحبشية، بعد تجريدهم من خصائص الذكورة، للأسف، حتى يتسنى لهم الاختلاط بالنساء.
لكن ليس هذا دورهم فقط، بل شكلوا عبر التاريخ شريحة مهمة سياسياً واجتماعياً في المدينة المنورة، وثمة كتاب رائع حقاً يحمل اسم (الأغوات) بالعربية وبالإنجليزية: الحراس، متضمناً من البداية صورة رائعة لأحدهم بزيه الجميل. الكتاب هو للمصور والفنان السعودي عادل القريشي وقد أبدع عادل فيه غاية الإبداع، ولدي نسخة زاهية منه، أهدانيها أمير المدينة، الأمير فيصل بن سلمان في وقت سابق.
صانع الكتاب عادل القريشي قال في مقابلة سابقة لـ«الشرق الأوسط»، إن الكتاب ليس عن الأغوات ذاتهم بل عن عالمهم. ثم علمت أن الكتاب كان فكرة أمير المدينة فيصل بن سلمان الذي كلف ودعم الفنان «المبدع» القريشي الذي قام بالمهمة خير قيام.
قال القريشي في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 لجريدة «الشرق الأوسط»: «كان عدد الأغوات عشرة عندما صورتهم أول مرة، وبقي الآن خمسة فقط. ويبدو أن الباقي منهم الآن هو 4 فقط».
فؤاد المغامسي باحث مهتم بهذا الأمر، قال لـ«العربية نت» إن الرحالة والمستشرقين الذين زاروا المدينة المنورة، دونوا تفاصيل عمل الأغوات المحددة والدقيقة، ونظام تسلسلهم الوظيفي الإداري. وذكر المغامسي أن حارة الأغوات وصل أفرادها للمئات في بعض العهود.
حين طالعت كتاب الأغوات البديع لعادل القريشي، بصوره الباذخة، قلت ألا تستحق هذه الفئة التي هي في ذبالة نورها الأخيرة، أن يعمل عنها عمل وثائقي رصين؟ خصوصاً أن من بقي منهم يقدر على الحديث... بلغوا التسعين عاماً أو أكثر؟
وما زال السؤال قائماً... لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وفي خلاصة القول، نحن أمام فصل مثير وغني من فصول الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية في المدينة النبوية، يعكس ما جرى في القرون الخالية.