بقلم : رجب أبو سرية
إصابة أمين سر (م ت ف) الفلسطينية الدكتور صائب عريقات بـ «الكورونا» أحدثت رد فعل شعبي عريض، نظراً لما يتمتع به الرجل من مكانة مرموقة في قلوب الشعب الفلسطيني، فهو منذ أن ظهر في «مدريد» متلفعاً بالكوفية الفلسطينية، والشعب يعرفه مناضلاً عنيداً وكفؤاً، متميزاً بل واستثنائياً، والحقيقة انه ليس الشعب الفلسطيني فقط، هو من قدر كفاءة الرجل واقتداره، بل إن القيادة الفلسطينية وخلال ثلاثة عقود مضت، وجدت فيه خير من يفاوض الجانب الإسرائيلي المراوغ في المهمة الصعبة والمعقدة، وحيث إن المفاوضات قد توقفت منذ ستة أعوام، فقد أوكلت له تولي أمانة سر المنظمة الجامعة للكل الوطني، وذلك لأن الرجل يحظى بالإجماع الوطني، حيث لم يظهر يوماً كمجرد قائد فتحاوي، رغم ان «فتح» ما زالت تعني الإطار التنظيمي الجامع للأغلبية الوطنية.
لابد من القول هنا إن جيلاً وطنياً مؤسساً للهوية الوطنية قد زرع بذور الهوية الوطنية ومضى، حيث ترك جيلاً بعده يزاوج بين الانتماء الوطني التنظيمي والكفاءة المهنية، وقد عُرف الدكتور صائب عريقات بكونه محاضراً جامعياً خاطب العالم بلغة متقنة ومقنعة جداً، وهذا الأمر بدأت تظهر تجلياته في عديد السفراء الفلسطينيين بالخارج، الذين لا يستندون فقط إلى عدالة القضية الفلسطينية، والى التعاطف الدولي التلقائي معها، بل الى كفاءة واقتدار، لذا فقد وصف الجمهور بعفوية صائب عريقات بالجبل الذي لا تهزه ريح الأنواء المحيطة بالسفينة الفلسطينية.
وحقيقة الأمر فإن إقامة أول سلطة فلسطينية على الأرض بعد «اوسلو» تطلبت ظهور جيل ثان، يتابع تأسيس الهوية على طريق فرضها وتحقيقها على الأرض، فكان التكنوقراط يظهر بين كوادر السلطة في عديد المواقع التنفيذية، بحيث يمكن القول إن السلطة قد زاوجت ما بين الكوادر الوطنية التنظيمية والكوادر الوطنية المهنية، لكن ذلك حدث بشيء من التلقائية وعدم التخطيط، نظراً الى أن الحرب مع الاحتلال تواجه ما يقوم به العدو من إرباك للحالة الوطنية بهدف إحباطها وإعاقتها، لكن الصورة كانت تتضح ما بين الصف السياسي التنظيمي في قيادة الفصائل و (م ت ف) من جهة، وبين كادر السلطة من جهة ثانية.
وحقيقة الأمر ان الكادر التنظيمي المستند الى الولاء الحزبي بالدرجة الأولى، ظل يحاول ان يكون هو المرجع الأول والمتنفذ او المتحكم بإدارة السلطة نفسها، محكوماً بحسابات التنظيم، مع اختلاف الدرجات بين فصيل وآخر، لكن ما لابد من قوله هنا، بان معركة إقامة الدولة المستقلة، ليست سياسية بحتة، أو أنها ليست سياسية فقط، فحين تدخل استحقاقات الواقع للمواطنين على الخط، يتأكد حينها بان كيفية إدارة شؤون المواطنين تدلل على الجدارة والأهلية الفلسطينية بالاستقلال من عدمه، ولعل حرص إسرائيل على تقديم صورتين باهتتين للسلطة الفلسطينية في غزة بداعي التطرف وفي الضفة بداعي سوء الإدارة او الفساد، ما كان إلا محاولة لإدامة الاحتلال وإقناع العالم ببقائه بهذا القدر او ذاك.
لقد قدم التكنوقراط الوطني الذي جمع بين الكفاءة في الادارة وما بين الانتماء الحزبي، وليس الولاء التنظيمي وحسب، نموذجاً، وعريقات أحد أبرز رموزه، ولعل هذا النموذج قد ساعد كثيراً السلطة على الصمود طوال اكثر من عقدين مضيا على الحرب الإسرائيلية من اجل إحباط مسعى الاستقلال، وحيث ان ما ظهر حتى الآن يمثل نماذج فردية هنا وهناك، فان مواصلة الطريق لكسب الحرب مع إسرائيل وفرض الاستقلال في نهاية المطاف، يتطلب أن يتحول هذا المسعى من الجانب الفلسطيني الى خطة طويلة الأمد، من خلال إنشاء المؤسسات المختلفة لإنتاج كادر الدولة في كل الاختصاصات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
وللتدليل هنا على أن هذا مدخل حقيقي وأساسي لنيل الاستقلال، نقول إن دولاً كثيرة كانت ترزح تحت نير الاحتلال، استقلت حين كانت بنية المجتمع تواصل صمودها و»استقلالها» البيني، بحيث يبقى الاحتلال إطاراً خارج البنية وحتى بلا حاجة. وغني عن القول إن سمة العصر قد تجاوزت حتى في منطقتنا حالة الأفراد، لصالح الحالات الجماعية، فمن يحافظ على الأهداف الوطنية ويجعل منها أهدافاً لا بد من تحقيقها، ليس الأفراد على أهميتهم التي قد تكون كذلك في لحظة ما، لكنها لا تبقى كذلك كل الوقت، لذا نقول إن الانخراط اليوم في ورشة إعداد جيل إرساء البنية التحتية للدولة المستقلة بات أمراً بالغ الأهمية، أكثر من الانهماك في مقارعة العدو في تفاصيل عابرة هنا وهناك.
إن إطلاق الجيل الفلسطيني الشاب ميدانياً عبر ورش ومؤسسات ونشاطات مجتمعية عديدة تشمل كل نواحي المجتمع، هو أمر بالغ الأهمية، وكما كان الحال قبل عقود بانخراط معظم الشباب في الأطر التنظيمية للفصائل، فإن الجيل الشاب اليوم يمكنه أن ينخرط في اللجان والجماعات المقاتلة على كل الجبهات، خاصة الميدانية التي ترتبط بالأرض، كما ظهرت من قبل لجان العمل التطوعي في سبعينيات القرن الماضي، من مكافحة الاستيطان وملاحقة إسرائيل قضائياً، للتصدي للمستوطنين داخلياً وعلى الأرض، إلى جماعات الدفاع عن الزيتون والأشجار، ولعل مطالبة الحكومة مؤخراً الناس بالتقدم بشكاوى محددة ضد المستوطنين ما يندرج في هذا السياق، المهم أن يتحول هذا إلى خط عام ورئيسي في الكفاح الوطني، الذي يبدو انه على أبواب مرحلة جديدة، يجترح فيها الشعب الفلسطيني، طريقاً جديداً ومختلفاً، للكفاح من اجل استقلاله الوطني.
إن تشكيل اللجان التي تدافع عن الحقوق الفلسطينية العديدة والتي تقف في وجه إجراءات الاحتلال الميدانية، هي التي تحبط كل خططه بالضم والقضم والتهويد، كذلك تشكيل النقابات والاتحادات والتجمعات، من اجل تصليب المجتمع من داخله، تطلق طاقة الشباب الوثابة، حتى لا تذهب بعيداً على طريق الفوضى أو العبث الضار بالكفاح الوطني، وبقدر ما يتم توظيف كل شاب وفتاة، كل رجل وامرأة في حرب طويلة الأمد، على طريق إرساء قاعدة المجتمع المستقل، من جهة، ومن جهة أخرى صد هجوم العدو الميداني الذي يطال الأرض والشجر والمباني، بقدر ما نضمن تحقيق الهدف المنشود، طال الزمان ام قصر، فيما تبقى لنا الرموز مشاعل تضيء الطريق وتحفز الشباب على تحقيق الذات بفعل إيجابي وطني، مثابر.