ليس لأن الأمر قد طال أكثر بكثير جدا مما يجب، بل لأن أحدا من أعداء فلسطين لم يعد يرى في الانقسام الفلسطيني الداخلي أمرا مجديا له، بعد أن حقق لهم ما أرادوا، لذا فإن عجلة إنهاء الانقسام، يبدو أنها بدأت بالدوران فعليا هذه المرة، نقول ذلك ونحن نتوجس من جملة الإخفاقات التي رافقت توقعاتنا أو أمنياتنا فيما سبق من مرات، ظهر فيها أن الخصام الداخلي قد وضع جانبا من قبل الفرقاء، بل ورغم توقيع الاتفاقيات العديدة بهذا الصدد، لكن سرعان ما كان الأمل يتبدد أو التوقع ينهار في لحظة يبقى فيها ما هو قائم قائما.
وآخر تلك المحطات التي حملت التوقع المتفائل كان مؤتمر الفصائل في رام الله وبيروت منتصف العام الماضي، والذي جاء تحت وطأة التهديد الإسرائيلي الصريح بإعلان قرار ضم الضفة الغربية، وفي سياق الضغط الأميركي الرهيب بإعلان صفقة ترامب سيئة الصيت والسمعة، والذي - أي مؤتمر الفصائل - كان بمثابة احتفال وطني، حدد آليات لإطلاق المقاومة الشعبية ووضع آليات إنهاء الانقسام، إلا أن قوة الدفع سرعان ما تراجعت، لتعود "ريما" الانقسام لحالتها القديمة، لكن هذه المرة، الأمور تسير على نار هادئة، وبعيداً عن تدخل الدول الإقليمية، وقد حسم الخلاف الجوهري الذي كان حول بوابة إنهاء الانقسام، حيث كانت "حماس" تريد حكومة وحدة وطنية، أي أنها كانت تريد وقوع الشراكة السياسية، مع إعلان إنهاء الانقسام، فيما فتح والسلطة كانت ترى في إجراء الانتخابات احتكاما للشعب ومدخلا لإنهاء ذلك الانقسام.
لا نريد الخوض في تفاصيل الخلاف سابقا حول آليات إنهاء الانقسام، لكن من الواضح أن حماس تراجعت عن إصرارها على ضمان الشراكة قبل رفع يدها عن غزة، ولم تعد تصر على تشكل حكومة الوحدة أولاً، ووافقت على أن تكون الانتخابات هي المفتاح السحري لإنهاء الانقسام، بما يعني البدء بحل المجلس التشريعي، مصدر "شرعيتها السلطوية"، ثم حاولت أن يترافق حل التشريعي بحل المجلس الوطني، من خلال موقفها الداعي لإجراء الانتخابات المتزامنة، لكنها أيضا تراجعت للقبول بإجراء انتخابات متتابعة ولكن مترابطة، وهكذا فقد دار الحوار في الأيام الأخيرة حول أجندة الترابط ما بين الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني المتتابعة.
وهكذا فقد كان لقاء الرئيس محمود عباس بالدكتور حنا ناصر رئيس اللجنة المركزية للانتخابات، لوضع الرزنامة الزمنية لهذا التتابع، وقد خرج ناصر بعد اللقاء بالإعلان، أولاً عن جاهزية اللجنة لإجراء الانتخابات من حيث المبدأ، أي من حيث إعداد وتحديث قوائم الناخبين، وتشكيل اللجان الخاصة بالانتخابات، فيما تبقى تفاصيل صغيرة متعلقة بما هو ميداني لضمان إجرائها خاصة في غزة، وثانيا عن أن الانتخابات تحتاج لأربعة أشهر (120 يوماً) من تاريخ إصدار المراسيم الرئاسية.
أي أن حصيلة الأمر بشقيه السياسي، بعد تقديم حماس ممثلة برئيس مكتبها السياسي الشيخ إسماعيل هنية للموافقة الخطية للرئيس عباس، والفني ممثلاً باقتراحات لجنة الانتخابات للتواريخ المحددة لإجراء الانتخابات للرئيس، قادت للتأكيد على أن المراسيم ستصدر في موعد أقصاه العشرون من الشهر الجاري.
ولعلها الصدفة التي حددت ذلك الموعد بالتزامن مع خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وبما يعني إجراء الانتخابات الفلسطينية بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي ستُجرى في آذار القادم، بما يعني أن الطرفين أمامهما استحقاق داخلي، قد يحدث على الجهتين المتقابلتين وجود قيادتين مختلفتين جاهزتين لفتح علاقة جديدة من التفاوض بوجود إدارة أميركية راعية جديدة.
المهم أنه إذا كان من المؤكد إجراء انتخابات الكنيست الثاني والعشرين الإسرائيلي في آذار، فإن إجراء الانتخابات الفلسطينية، غير مؤكد حتى لحظة إصدار المراسيم فعلاً، والتي إن جرت، كذلك من غير المعروف بالضبط الموعد الذي ستُجرى فيه، لكن يمكن التقدير بأنها ستُجرى في أيار أو حزيران القادمين، بعد أن تكون اتضحت صورة الحكم داخل إسرائيل، وفي حال إجراء الانتخابات على الجانبين، فإن صورة السلطة الفلسطينية يمكن أن تكون أوضح اليوم مما ستكون عليه الحكومة الإسرائيلية القادمة.
بمعنى أن السلطة الفلسطينية ستظهر الشراكة بين فتح وحماس، وستكون أقوى مما هو عليه الحال اليوم، وهذا يعني أن أي اتفاق مع السلطة القادمة سيكون مكفول التنفيذ، فيما يلف الغموض، ما سيكون عليه حال الحكومة الإسرائيلية.
وهذا يعني أنه بمجرد إجراء الانتخابات الفلسطينية، سيكون الطرف الفلسطيني جاهزا محليا ودوليا لعقد أي اتفاق حل تاريخي، فيما مطلوب من إسرائيل أن تخرج عبر صناديق الاقتراع حكومة مرنة، أو معتدلة بشكل كافٍ للتوصل لحل يقبل به الطرفان أولا، ويضمنه المجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة ثانيا.
يبدو مع كل هذا، أن نهاية الصبر الفلسطيني قد اقتربت، فلم يكن هناك أسوأ مما كان، خاصة خلال السنوات الأربع الماضية، وقد حققت إسرائيل إنجازا بالتطبيع مع أربع دول عربية، بما قد يعني أن تكتفي بهذا الإنجاز لتقدم التنازل فيما يخص الملف الفلسطيني، خاصة إذا وضع كل ذلك الإنجاز مقابل ذلك التنازل، وهنا لا ننسى أن حالة الانهيار العربي، قد توقفت قليلا بعد المصالحة الخليجية، وهناك بعد مؤتمر مجلس التعاون الخليجي محطة القمة العربية، والتي حين تنعقد في آخر آذار، الموعد المعتاد للقمة، قد يجري التلويح بهذه الورقة، أي ورقة التطبيع مقابل إجبار إسرائيل على دخول المعترك التفاوضي مع الجانب الفلسطيني، خاصة أن الأوروبيين وروسيا وحتى أميركا/بايدن يرغبون في هذه المفاوضات، وهذا يكشف عنه اجتماع الرباعي الدولي/ الإقليمي (مصر والأردن، ألمانيا وفرنسا) بالقاهرة أمس.
كل شيء إذا معلق بمراسيم الرئيس المنتظرة، والتي ستعلن الانطلاق نحو المحطة الأخيرة في قاطرة الانقسام، وقد تعني كذلك، أيضا فتح الباب لمفاوضات الحل النهائي بين فلسطين وإسرائيل، لذا فهي تنطوي على أهمية بالغة، على أكثر من صعيد وفي أكثر من اتجاه، ما لم تحدث كارثة غير متوقعة، فإنها ستصدر كما يجب وفي الوقت المناسب، لتحل معها البشرى لشعب صبر طويلاً وعانى من الخارج والداخل كثيراً، ليصبح على موعد مع الفرج الذي يكون عادة قابعاً في آخر النفق.