بقلم : رجب أبو سرية
بعد نحو أسبوع من الإعلان الأميركي الخاص بخطة دونالد ترامب لتسوية ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، يمكن القول إن ما كان مفاجئاً هو الرد الفلسطيني، الذي أقل ما يقال فيه، أنه بقدر ما كان شجاعاً وثابتاً، جاء معبراً عن رباطة جأش لا يتمتع بها عادة إلا الواثقون من أنفسهم ومن شعوبهم، كذلك المتأكدون من النصر في نهاية الأمر، طال الزمان أم قصر، كذلك جاء الرد دليلاً على أن القيادة الفلسطينية، لم تتطير ولم تنفعل، وما زالت تبدي الاستعداد الكامل لمواصلة الكفاح الوطني لسنوات طويلة قادمة، بل حتى لعقود قادمة.
يقيناً بأن الثنائي العدو، الإسرائيلي/الأميركي، كان يتوقع أو يرغب في أن يدفع إعلانه الصاخب والمفاجئ_ والذي جاء على أي حال، بما يعبر عن رغبته في أن يلقي عن كاهله عبء خطة، كان هو نفسه عبر الشهور الماضية مقتنعاً بأن لا فرصة لها في الحياة_ أن يؤدي إلى دفع الجانب الفلسطيني إلى «التطير» والانفعال، وحرق الأرض، بل وإشعالها، كما حدث - على سبيل المثال عام 2000 - بما يبرر لحكومة متطرفة تحتاج إلى خشبة خلاص، هي حكومة اليمين الإسرائيلي، إلى الاندفاع بدورها لشن حرب الضم بما قد يصل إلى حد إسقاط السلطة، أي إلى شن حرب أخيرة، تشبه حرب حزيران 1967 مثلاً، تفرض على الأرض واقعاً جديداً، هو واقع ضم ما أعلنت عنه من مناطق الضفة الغربية، أو بمعنى آخر واقعاً آخر مختلفاً عن ذلك الذي نشأ في أعقاب عام 1967.
لكن القيادة الفلسطينية يتقدمها الرئيس محمود عباس، الذي أثبت هذه المرة بما لا يدع مجالاً لأي شك، بأن التعقل والاعتدال يترافقان مع الصلابة على الثوابت أكثر بكثير من التطرف اللفظي، ومن إعلان الشعارات، فهذه المرة وعلى عكس التجربة التاريخية للصراع، من لجأ للصخب والتطرف هو الجانب الإسرائيلي، فيما ظهر الجانب الفلسطيني كمتعقل ومنطقي ومدافع عن السلام، بما يقنع العالم الذي يقف بمعظمه بين الطرفين، وقد أثبتت القيادة الفلسطينية حنكة وخبرة، بل ومهارة سياسية، لولاها، لظفر الفلسطينيون بإحدى الحسنيين، أي الشهادة، صحيح أن يوم الجمعة بالذات كان يمكن أن تحترق الدنيا فيه، وأن يظهر الفلسطيني كشهيد عظيم، لكن يبدو أن من يقاومون إسرائيل قد تنبهوا تباعاً، لمحاولات إسرائيل المتتابعة لإعادة أعدائها إلى ما كان عليه حالهم قبل عقود، أيام عبد الناصر وصدام حسين، لذا فمن قبل السلطة أظهر حزب الله ومن ثم إيران مثل هذا القدر من التعقل في الرد، بما أحبط المخططات الإسرائيلية/الأميركية المتواصلة للهروب إلى شن الحروب لفرض توسعها الجغرافي وزيادة غلتها الاحتلالية، ولا ننسى هنا بأن إسرائيل ومنذ عام 1948 توسعت جغرافيا دائماً بالحروب، واضطرت لبعض الانسحابات بالسلم.
لم يقف محمود عباس، الرجل الوحيد الذي ما زال حيا، والذي ما زال يدافع عن سلام حدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ليلة مقمرة، مكتوف الأيدي، لكنه لم يرغ ويزبد، بل ثبت على الأرض ولم يحلق في السماء وعض على الغيظ، وخرج في طريق المواجهة لاحتواء الخطر، وهو يدرك مقدرة العدو وغايته ومسعاه، لذا فإن القيادة الفلسطينية التي كانت تدرك بأن الدنيا كلها تعرف موقفها الرافض للخطة الأميركية، بما في ذلك العدو نفسه، لم تشعر بالحاجة إلى إطلاق صواريخ الرفض الكلامي، ولا بضرورة ولا أهمية ذلك، بل شرعت على الفور، للبدء بتحصين مصدات الردع، حيث أمكن ذلك في ظل وضع عربي متردٍ، ليس خير دليل على ذلك من مشاركة ثلاثة سفراء عرب في احتفاء البيت الأبيض بإعلان خطة التصفية.
وكان المفصل هو اجتماع وزراء الخارجية العرب، والكل كان ينتظر الموقف الفلسطيني، خاصة الروس والأوربيون، لكن ما كان صحيحاً ولا مفيداً أن تتخذ القيادة الفلسطينية موقفاً انتحارياً، يدفع رئيساً أميركياً متهوراً، لأن يطلق العنان لكراهيته الشديدة للشعب الفلسطيني بإجراءات عدائية إضافية ولا إلى عدو فاشي مثل نتنياهو وبينيت لجعل صاروخ كلامي فلسطيني مبرراً لإطلاق حمم الموت تجاه شعب اعزل، أو تجاه قضية سياسية عادلة، وهكذا، كانت القاهرة يوم السبت الماضي على الموعد، وحيث تجند الرئيس شخصياً، فقد جعل من الاجتماع محطة للرد الكافي لبدء مسيرة إحباط الخطة الأميركية فعلياً.
بالطبع كانت بعض العواصم العربية المنخرطة حتى نخاعها في الركب الأميركي، تريد أن تتملص من إعلان الرفض، بل ربما كانت تفكر في جر الجامعة العربية لإطلاق بيان شجب وتنديد لا يسمن ولا يغني من جوع، لكن النجاح الفلسطيني الذكي في جعل الاجتماع مباشراً وعلى الملأ، دفع الجامعة العربية، بإجماع أعضائها إلى إعلان الموقف العربي الصريح والواضح والذي لا لبس فيه برفض الخطة الأميركية المسماة بصفقة العصر.
الآن الموقف الفلسطيني الرافض للخطة مغلف بموقف عربي، ولهذا أهمية قصوى فوتت الفرصة على العدو الأميركي/الإسرائيلي الذي بنى إستراتيجيته في فرضها على الرفض الفلسطيني المعزول، حتى أن الروس انتظروا الموقف الفلسطيني والعربي، والعرب فرادى يخشون إعلان الرفض أمام ترامب، والموقف العربي الموحد يفتح الباب لإلحاقه بموقف إسلامي وأفريقي، مماثل ومن ثم الذهاب إلى مجلس الأمن، في محاولة لفرض «الحجر السياسي» على خطة هي أشبه بفيروس سياسي خطير ومعدٍ، مثل فيروس كورونا.
هكذا يمكن القول اليوم بارتياح بأن إعلان ترامب خرج كما خرجت ورشة المنامة من قبل، أي بخفي حنين، وإذا كان الأميركيون والإسرائيليون بعد الإعلان صاروا في حالة دفاع عنه، فإنهم يحاولون إيقاف الجانب الفلسطيني عن متابعة الرد إلى حين إجراء انتخابات الكنيست أي إلى ما بعد شهر، لربما سقط نتنياهو، وصار تنفيذ الإعلان أو بعض بنوده في عهدة الحكومة الجديدة، لكن باختصار فإن الإعلان صار مثله مثل إعلان القدس والجولان وكثير من القرارات الاحتلالية الإسرائيلية «حبراً على ورق» برسم المقاومة الفلسطينية متعددة الأشكال والأساليب والمستويات، أي على أرض المواجهة وبين الطرفين المتصارعين، حيث لا أحد يحارب عن أحد حربه أو معركته مهما ناصره أو تحالف معه، أو أيّده أو تعاطف معه أو انحاز إليه