بقلم - رجب أبو سرية
ربما كانت أسوأ لحظات النكبة الفلسطينية التي حلت بشعبنا العام 1948، هي تلك اللحظة التي ارتبطت بالواقعة نفسها، حيث لم يكن أحد يتخيل أو يتوقع حدوث ما حدث، نظراً إلى أن الوجود «اليهودي» في فلسطين كان طارئا، وكان الناس يتوقعون أن تنجح الجيوش العربية، وربما بكل سهولة في القضاء على مجموعات عصابية مسلحة عدوة، أو على الأقل أن تفرض عليها التقوقع في أضيق نطاق ممكن، وذلك بعد خروج «حاميها» وعرابها، أي الانتداب البريطاني.
والحقيقة أن وقوع النكبة كان صادما للشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه وهو شبه أعزل في مواجهة عصابات مسلحة متطرفة لم تتوانَ عن ارتكاب المجازر بحق المواطنين لتحقيق هدف «تفريغ» الوطن من شعبه، لتحقيق مقولة الأرض بلا شعب، لدرجة أن الشعب لم يستوعب ما حدث إلا بعد مرور سنوات، أدرك خلالها، أن الأنظمة العربية تتراوح بين موقفين، أحدهما موقف المتورط بالخفاء مع العدو، والثاني العاجز عن حماية الشعب الفلسطيني، ليس من خطر القتل وحسب، ولكن من خطر الطرد أيضا.
وهكذا لم تنتهِ نكبة العام 48، بإقامة «دولة إسرائيل» وعدم قيام دولة فلسطين، وفق قرار التقسيم، على أقل تقدير، ذلك الذي صدر عن الأمم المتحدة في العام الذي سبق عام النكبة، أي العام 1947، ولا بنتيجة تجاوز «دولة إسرائيل» المعلنة لحدودها وفق ذلك القرار، وحسب، ولكن أيضاً بتهجير نصف الشعب الفلسطيني، إلى خارج حدود فلسطين التاريخية، الانتدابية، كذلك تهجير أكثر من نصف من تبقى داخل وطنه، إضافة إلى المجازر العديدة التي ارتكبت، ومن ثم تدمير معظم القرى، وهي نحو 400 قرية، فيما تم اجتياح المدن لاحقاً بالتهويد، وهكذا فإن آثار النكبة لم تتوقف عند تلك الحدود التي حدثت في ذلك العام وحسب.
في حقيقة الأمر، فإن الصهيونية العالمية، لم تكن تخطط «لدولة يهودية» في نصف فلسطين وحسب، وهي كما قال شمعون بيريس يوما، ظلت تمارس سياسة «الذئب في جلد نعجة»، لذا فإنها اعتمدت لاحقا في تنفيذ سياسة الحفاظ على الدولة أولا، ومن ثم توسيعها ثانيا، على عاملين، الأول هو بقاء الشعب الفلسطيني تحت الوصاية العربية، ما دامت الوصاية العربية ليست عدوة في حقيقتها لمخططاتها، أو أنها عاجزة عن إفشالها لهذا السبب أو ذاك ثانيا.
لذا فهي قبلت قرار التقسيم، ما دام أنه سمح لها بإقامة الدولة، ثم لم تسأل لاحقا عن تجاوزها لحدود تلك الدولة وفق قرار التقسيم، وكان وعد بلفور نفسه قبل ذلك قد نص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولم يقل لا دولة، ولا على كل فلسطين، وكانت سياسة ديفيد بن غوريون تواجه معارضة من غلاة الصهيونية أتباع جناح غابوتنسكي، الذين أنجبوا بعد ذلك الليكود الحالي، لأنهم كانوا يعرفون حقيقة الأهداف الصهيونية التي لا تكتفي بنصف فلسطين، وحتى لا تكتفي بكل فلسطين، وما زالوا يخلصون لهذه الأيديولوجية حتى اليوم، ولا حدود لأطماعهم، التي يواظبون على العمل من أجل تحقيقها، ولهذا يسعون اليوم لأفراغ كل المنطقة العربية المحيطة بإسرائيل من عناصر القوة، تمهيدا للانقضاض عليها في اللحظة المناسبة .
لكن عجلة التاريخ لا تسير في اتجاه واحد، ولكل فعل في الحياة كما في الطبيعة، رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، لذا ما كانت إلا سنوات قليلة، وبدأت ملحمة الكفاح الوطني الفلسطيني، أولا في الضفة والقطاع اللذين بقيا خارج نطاق إعلان قيام «دولة إسرائيل»، وثانيا داخل المجتمع العربي/الفلسطيني داخل إسرائيل نفسها، ثم في مخيمات الشتات التي احتضنت الثورة المسلحة بعد عام 67، وإن تعددت أشكال وأدوات الكفاح الوطني من أجل تثبيت الهوية الوطنية أولا ومن أجل الصمود والبقاء على أرض الوطن ثانيا.
وهكذا تم وضع حد لمقولة أرض بلا شعب، على الأقل في ما لم يحتل العام 48 من أرض فلسطين، ولهذا السبب ما زالت الضفة الغربية وقطاع غزة، رغم مرور أكثر من سبعة عقود على واقعة النكبة، يشكلان العقبة الكأداء على طريق تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى، ولم يقتصر الأمر على الصمود وحسب، بل قبل أن تكمل النكبة عقدين من عمرها، كانت المقاومة المسلحة تنطلق في العام 65، لتضع فلسطين على خارطة السياسة الدولية، وتزرع بذور الدولة الفلسطينية المستقلة التي يريدها ويقر بها كل العالم، والتي بإقامتها على أرض الواقع، يتم إجهاض مشروع التوسع الإسرائيلي وصولاً إلى إسرائيل الكبرى، نهائيا والى الأبد.
سبعة عقود كاملة من الجرح المستمر والمتواصل، ورغم أنه يمثل وصمة عار على جبين النظام العالمي، إلا أن الشعب الفلسطيني، الذي كان يقف وحده في معظم الأوقات يقاتل وحشا مدججا بكل أدوات القوة والقتل، مدعوما من أقوى دولة في العالم، ومحميا بها سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وبشكل متواصل منذ العام 65 حتى الآن، أي منذ خمسة وخمسين عاما، والشعب الفلسطيني ما زال يكافح كفاحا مشروعا أقرته الأمم المتحدة، إن كان عبر الكفاح المسلح أولا، ومن ثم عبر الانتفاضة الشعبية ثانيا، ثم عبر الكفاح الشعبي متعدد الأدوات والأشكال والأساليب ثالثا، وما زال الكفاح مستمراً.
من يقُمِ اليوم بالوقوف عند ثقافة الجيل الفلسطيني الشاب، إن كان داخل فلسطين، حيث احتفظ نصف شعبها بالبقاء على أرض وطنه، أو خارج فلسطين حيث النصف الثاني ما زال يتطلع للعودة إلى وطنه، يدركْ جيدا، أن الأوهام وحدها كانت تداعب مخيلة غولدا مائير حين قالت إن الكبار يموتون والصغار ينسون، ولعل الأوهام الاستعمارية ما زالت هي التي تملأ رؤوس قادة إسرائيل، الذي لم يستوعبوا، بعد كل هذه السنوات، أن الشعب الفلسطيني غير قابل للاستئصال، فها هو يناطحهم رأسا برأس، رغم عدم توازن الإمكانيات، وهم بحاجة لأن يستفيقوا من غفلتهم، ويقبلوا بالحل الوسط التاريخي، بما يتجاوز حقبة الاستعمار، التي عاشت في ظلها وبفضلها قامت إسرائيل وبقيت دولة احتلال لأرض وشعب دولة أخرى!