بقلم : رجب أبو سرية
رغم أن نهاية العام وبداية العام الجديد، تصادفان منذ أكثر من نصف قرن مواعيد أو مناسبات انطلاق الفصائل الرئيسية الفلسطينية، إلا أن الأول من كانون الثاني، يمثل الحدث الأبرز أو المناسبة الأهم في تاريخ الشعب الفلسطيني، منذ أكثر من خمسين عاماً مضت، ليس لأن البشرية كلها تحتفل في ذلك اليوم بقدوم العام الميلادي الجديد، وليس لأن السيد المسيح يعتبر نبياً فلسطينياً وحسب، ولكن لأن ذلك اليوم يمثل انطلاقة حركة «فتح»، التي تعتبر انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، والتي بناء عليها، صارت هناك مكانة للفصائل الأخرى، حيث صار بإمكانها أن تحتفل بانطلاقاتها.
ولو لم تظهر «فتح»، أو لو أننا افترضنا جدلاً أنها لم تحدث انطلاقة الفاتح من كانون الثاني من العام 1965، لما ظهرت الثورة المعاصرة، التي فتحت الباب لظهور الفصائل الوطنية الأخرى، والتي حملت راية الكفاح الوطني لاحقاً، ومن ثم حققت الوجود السياسي لـ م.ت.ف ومن ثم لفلسطين، ولولا وجود تلك الثورة لما وجدت انتفاضة العام 1987 الحاضنة التنظيمية ومن ثم الإطار السياسي الذي ساعدها على الاستمرار، أي باختصار وبكل صراحة، لو لم تظهر «فتح» عام 1965، لما كنت هناك فصائل: شعبية وديمقراطية ونضال شعبي وعربية وفلسطينية، أو أنها لربما جميعاً كانت محاولات فاشلة، كما سبقها من محاولات، كذلك لولا انطلاقة «فتح» واستمرارها لما ظهرت «حماس» في سياق انتفاضة 1987، لأن «فتح» فتحت الطريق وعبّدتها أمام الآخرين، ليشكلوا تباعاً إضافات وطنية، أحدثت جدلاً داخلياً دون شك، لكنها كانت إضافات بهذا القدر أو ذاك، كان بعضها يزعج أحياناً ويبهج أحياناً أخرى، لكنها جميعاً تبقى مثل عناقيد العنب أو مثل عقد اللؤلؤ، رغم أن هناك واسطة للعقد أو للعنقود، وواسطة العقد الوطني هي «فتح» دون ريب أو شك.
تحولت انطلاقة «فتح» إذاً دوناً عن الفصائل كلها، بما في ذلك «حماس»، المنافس الحالي لفتح _ والتي كانت فصائل عديدة بالمناسبة قد نافستها من قبل _ إلى عيد وطني، وانطلاقة «فتح» بالتحديد هي التي تعد انطلاقة للثورة الفلسطينية، وبهذه المناسبة لا بد من إجراء عملية مراجعة سنوية للوقوف عند النجاحات والإخفاقات السنوية، لكن ما لا بد من قوله بكل صراحة، هو: إن «فتح» يمكن النظر إليها اليوم وفق مرحلتين مختلفتين، ليس على أساس الوجود في الخارج أولاً والداخل ثانياً، بل على أساس كونها حركة تحرر منذ العام 1965 وحتى العام 1994 أي نحو ثلاثة عقود، ومن ثم كحزب سلطة حاكم منذ العام 1994 وحتى الآن، أي خلال نحو ربع قرن آخر، و»فتح» حركة التحرر هي ليست «فتح» حزب السلطة بالتأكيد، ليس ارتباطاً بالوظيفة أو الدور الوطني المختلف بين المرحلتين، ولكن أيضاً بحكم النضج وتغير الظروف الدولية والإقليمية المحيطة بالقضية الفلسطينية، وكذلك تغير المعادلة الداخلية حيث ظهر «الإسلام السياسي».
ومنذ العام 94، كانت هناك محاولات داخلية عديدة للوقوف عند هذا الأمر، لكن إستراتيجية خلّاقة تجمع بين مهام وطبيعة حركة التحرر والسلطة، لم تظهر حتى اللحظة، وهذا يشمل أيضاً الفصائل الأخرى، وإن بدرجات أقل، كون «فتح» دائماً يقع عليها عبء الريادة الوطنية.
ليس مهماً كثيراً أن نقوم باستعراض تاريخ «فتح» الكفاحي الطويل، لا من حيث عدد الشهداء القادة والمناضلين ولا عدد الأسرى ولا الجرحى، الذين يفوقون عدد كل الفصائل الأخرى، فرادى دون شك وربما مجتمعة أيضاً، فقد سجل التاريخ أن «فتح» رائدة الكفاح الوطني، وهي ليست بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر، لكن لا الحركات السياسية ولا الأحزاب ولا حتى الأفراد يعيشون فقط على ماضيهم التليد، بل لا بد من مبررات للريادة الراهنة وللاستمرار في القيادة بالمستقبل، وهنا أيضاً لا يمكن مقارنة «فتح» لا بـ»حماس» ولا بغيرها، ولكن لا بد أن تتحدى «فتح» نفسها أولاً، وثانياً أن تتحدى المثال الواجب، الذي يختبئ بين طيات المستقبل.
أسوأ ما في الأمر هو أن الواقع السياسي الإقليمي وكذلك الوطني لم يلق في وجه «فتح» التحدي المناسب لتتفوق على نفسها، لكن التجربة وإيقاع الحياة والواقع يفعلان شيئاً ما _ ربما ليس بالقدر الكافي _ لكنه ملموس، فـ»فتح» اليوم تشق طريقاً جديداً للتحرر الوطني، من خلال اللجوء للقضاء الدولي، وللمجتمع الدولي، ومن خلال الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال، بعد الدفع بجملة من الرموز الوطنية، بما في ذلك كرة القدم، حيث إن اسم فلسطين كدولة، كعلم وكرئيس وممثليات، يجوب العالم أجمع، بما يكرس فكرة الدولة الفلسطينية في الذاكرة البشرية، وحين تقع لحظة النصر، أي تحقيق دولة فلسطين على الأرض، سيسجل التاريخ أن فلسطين سجلت شكلاً جديداً ومختلفاً في تحرير الشعوب وإقامة الدولة المستقلة من خلال الكفاح المدني والقضائي والسياسي، وهكذا فإن كفاح السلطة، التي هي سلطة «فتح» بهذا الشكل ربما يجيب، وإن ليس بشكل تام وكامل وتفصيلي وحتى بشكل صريح، على السؤال المتعلق بكيفية الجمع بين «فتح» كحركة تحرر و»فتح» كحزب سلطة حاكم.
لكن وكما كان الحال _ إلى حدود معينة في السابق _ فإن أسوا ما تتعرض له «فتح» هو أن تتحول منافسة الحركة الشقيقة إلى ما يشبه كيد النساء، حين تقوم «حماس» بكل ما من شأنه أن يعرقل «فتح» في مسيرتها لإكمال إنجاز المشروع الوطني، و»حماس» لم تكتف بأنها قد التحقت متأخرة، عن «فتح» نحو ربع قرن، وأنها لم تر الاحتلال الإسرائيلي طوال عقدين كاملين من العام 67 حتى العام 87، وأنها قد سارعت إلى فض الشراكة الوطنية بالقوة العسكرية عام 2007، لتنفرد بالسلطة في غزة مفضلة إياها على الشراكة مع «فتح»، عبر سلطة الرئيس الفتحاوي والحكومة الحمساوية، التي ظهرت عام 2006، بل إنها واصلت «الحفاظ» على ابنها غير الشرعي، أي الانقسام، طوال 13 سنة، لذا فإن معالجة الوضع الداخلي بشكل خلاق أمر ضروري ويعتبر جزءاً من برنامج الكفاح الوطني، ومن ضمن ذلك الافتراق عن «حماس» وأخواتها المرتبطة بالماضي، فالمستقبل هو الأجدر بالاهتمام.
ودولة فلسطين، إن كانت لم تتحقق حتى اللحظة، فإنها ستتحقق في المستقبل، أي بمواصفات الدولة الحديثة، بل دولة العام 2030 وليس دولة العام 1918، أو حتى دولة خمسينيات القرن الماضي، و»فتح» ثالثة جديدة ومتجددة، «فتح» الدولة الحديثة/المستقلة، يمكنها فقط أن تدخل المستقبل من الباب الواسع، أما زبد هذه الأيام فكله إلى زوال.