بقلم : رجب أبو سرية
قبل أكثر قليلاً من أربعة أشهر وبالتحديد ليلة الخامس والعشرين من آب العام الماضي 2019، اغتالت إسرائيل عنصرين من حزب الله ومعهما عنصر إيراني على الأرض السورية باستخدام الصواريخ الموجهة من قبل طائرة مسيرة عن بعد، وذلك قبل ساعات من قصف طائرتين أخريين لمعقل حزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت، العاصمة اللبنانية، لينتظر العالم كله خلال الأيام التالية رد حزب الله، خاصة بعد أن أعلن رئيسه السيد حسن نصر الله شخصياً، بأن حزبه سيرد على الضربة الإسرائيلية بدون شك ولا تردد.
أقل من أسبوع بعد ذلك وبالتحديد في اليوم السابع، أي بعد مرور ستة أيام، جاء رد حزب الله باستهداف حافلة إسرائيلية، كانت خالية من الجنود، حيث قيل بأن إسرائيل قامت بإيهام حزب الله بأنها مركبة حقيقية، تقلّ جنودا إسرائيليين، وهكذا حقق حزب الله الجانب المعنوي من خلال رد صاروخي، فيما حققت إسرائيل مبتغاها بعدم سقوط أية ضحايا بشرية من خلال الرد.
وبعد اغتيال رجلها القوي والذي يعده البعض الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى، نقصد قاسم سليماني الأسبوع الماضي، جاء الرد الإيراني يشبه إلى حد كبير، بل ربما تماما رد حزب الله، السابق ذكره، وذلك من خلال رشقة صواريخ بلغت اثني عشر صاروخاً استهدفت قاعدة عسكرية أميركية، تلاها صاروخان استهدفا المنطقة الخضراء حيث تقبع السفارة الأميركية، تلاها إعلان إيراني بأن طهران قد اكتفت بذلك في ردها الانتقامي على اغتيال رجلها سليماني.
من يريد أن يقرأ مسلسل الصراع الأميركي/الإيراني في المنطقة، إذاً عليه أن يقرأ حلقات ثلاث لتجربة الصراع بين حليفهما في المنطقة، والممتدة منذ سنوات، أي سلسلة حروب وتهدئات حزب الله مع إسرائيل، ومن قبلها أو معها سلسلة الاحتكاك العسكري بين إسرائيل وغزة.
فإلى جانب إيران هناك حزب الله الملتصق تماماً مع إيران، والى حد كبير "الجهاد الإسلامي" وبدرجة أقل "حماس" في غزة، مقابل التصاق إسرائيل بأميركا، وفي تفاصيل الصورة، تعتمد إيران وحلفاؤها بدرجة أساسية على القوة الصاروخية، فيما تعتمد أميركا وإسرائيل على القوة الجوية، والتي تدرجت من استخدام الطائرات الحربية إلى الطائرات المسيرة.
صواريخ إيران وحلفائها تحقق منجزات معنوية، ولا تسقط ضحايا في جانب العدو، فيما إسرائيل وأميركا تستهدف أفراداً تختارهم بعناية ودقة، أي أن اللجوء إلى العنف، من قبل جانبي الصراع يهدف إلى الإبقاء على حالة العداء والى الإبقاء على حبله مشدوداً، لكن دون أن ينقطع، ودون أن يؤدي إلى حرب شاملة، وهذا يعني بأن صراع النفوذ في المنطقة بينهما ما زال قائماً، وسيبقى إلى أمد طويل، إلى أن تنشأ ظروف تسمح باقتناع الطرفين، بالتوصل إلى الحدود الفاصلة، بينهما، وهذا يعني أن لعبة عض الأصابع ستبقى ما دام الشرق الأوسط كله ما زال في حالة مخاض، منذ عدة عقود، وبالتحديد منذ الحرب ظهور حزب الله، في ثمانينات القرن الماضي، ومنذ دخول القوات الأميركية إلى العراق عام 2003 .
في هذه اللعبة من يحقق النقاط وكيف، لا يمكن القول إلا أن أحدهما يحقق ما يرضيه، مقابل ما يحققه الآخر مما يرضيه أيضاً، ما دام الخاسر هو طرف ثالث، في حقيقة الأمر تجري المواجهة على أرضه، ونقصد هنا بكل وضوح، العرب، إن كانوا في غزة، أو سورية، لبنان أو العراق.
من الواضح بأن التقدم الأميركي على طريق العداء لإيران إنما يتم بتحريض إسرائيلي، وإسرائيل تحاول أن تصد أو أن تكبح جماح النفوذ الإيراني في لبنان من خلال حزب الله، لكنها تفشل، وتبقى في حالة دفاع كل الوقت، وإسرائيل المحكومة باليمين الإسرائيلي، الذي تداعب مخيلته فكرة إسرائيل الكبرى، بات يفكر منذ عقد من الزمان بتحقيق الحلقة الثالثة من إقامة إسرائيل الكبرى، أي بعد حلقتي 1948، 1967، وهو حاليا يقوم بمحاولة هضم "منجزات" الحلقة الثانية، من خلال الضم النهائي للجولان والقدس والضفة الغربية، ويسعى إلى توسيع دولة إسرائيل، أي مد حدودها الأمنية على الأقل، إلى الفرات شرقا، بتجاوز الأردن وصولا إلى سورية والعراق.
وهذا يفسر كيف تحاول إسرائيل فرض منطقة أمنية عازلة تصل إلى دمشق، وذلك من خلال قواتها الجوية، والى حدود الفرات بالاعتماد على الأميركيين، وإسرائيل وهي قد أخرجت العرب فرادى ومجتمعين من دائرة حساباتها الإقليمية ترى بأن الشرق الأوسط العربي بات منطقة صراع بين قوى إقليمية ثلاث، هي إلى جانبها تضم كلا من إيران وتركيا.
وحيث أن تركيا تعتمد في قوتها على التنمية الاقتصادية، فإنها تضع حدا لتطلعاتها من خلال إنشاء قاعدة التحالف مع خصوم تركيا من عرب الخليج، حيث أن تركيا تعتمد على الإخوان، وهم خصوم الإمارات ومصر والسعودية، وتقوم بمحاصرة حصة تركيا من الغاز المتوسطي بالتحالف مع خصم تركيا السياسي التاريخي، أي اليونان وقبرص، فيما ترفع أميركا عصا العقوبات في وجه تركيا، وفي أية لحظة يمكن الدفع بتركيا إلى الانهيار الاقتصادي، وتركيا تكتفي عملياً حالياً بعد أن فقدت الأمل في الوصول للعواصم العربية بالانقلابات الإخوانية، بالوصول إلى شمال غرب سورية، لتجد القوات الأميركية تقطع عليها الوصول لمناطق النفط السوري والعراقي.
تبقى إيران التي لها قواعد بشرية تصل لبنان واليمين مرورا بالعراق وسورية، وفي هاتين الدولتين يمكن القول بأن إيران أكثر نفوذاً من أميركا وحتى روسيا، لذا فإن وجود إيران في الشرق العربي يحول دون طموح إسرائيل الكبرى، بالنتيجة فإن الرد الناعم الذي تعتمده إيران وحلفاؤها في استغلال واضح لكون التكتيك الأميركي/الإسرائيلي متأثر بصناديق الانتخاب الداخلي، يحقق مكاسب بعيدة المدى، ففي غزة باتت "الجهاد" وليست "حماس" هي من يمتلك مفتاح التهدئة والتفاهمات، وحزب الله قوي في لبنان، بل إن اغتيال سليماني قد أغلق الأبواب على الاحتجاج الشعبي في لبنان والعراق، وفتح باب طرد الوجود العسكري الأميركي من العراق، لتبقى إيران هي الوجود القوي الوحيد فيه، وما هي إلا دورة انتخابية يخرج فيها نتنياهو وترامب من مقاعد الحكم، حتى يبدأ فصل جديد من صراع النفوذ في الشرق الأوسط العربي.