بقلم :رجب أبو سرية
كما لو أن صاعقة سقطت على رأس إسرائيل فجأة، جاء إعلان رئيسة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا بفتح التحقيق في احتمال ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، لدرجة أفقدت قادة دولة الاحتلال عقولهم، وأخرجتهم عن أطوارهم، حيث سارع رئيس حكومة تصريف الأعمال بنيامين نتنياهو إلى القول بأن ذلك اليوم، إنما هو يوم أسود على العدالة، ثم تابع بعد ذلك إلى إعلان رفض القرار الدولي، بل ومحاربته، مدعياً بأن ليس للمحكمة المذكورة ولاية قضائية في الأراضي الفلسطينية !
وكما يحدث عادة مع المجرمين وقطاع الطرق بل والقتلة حين يتم إلقاء القبض عليهم، بعد أن كانوا يظنون بأنهم سيفلتون من العقاب، ارتعدت أوصال «قادة الحروب» الإسرائيليين، لدرجة تجعلنا نعتقد بأن حديث الجنائية الدولية وتطورات الملف الذي أعلنت عن فتحه سيطغى على أداء ليس الحكومة فقط، بل وكل طواقم العمل السياسي الإسرائيلي، لدرجة أن يجعل من الاهتمام بالانتخابات الثالثة التي تجري خلال عام واحد، أمراً ثانوياً، ذلك أن معظم المتنافسين الرئيسيين في تلك الانتخابات ستطالهم المساءلة، وحتى الإدانة بمن فيهم نتنياهو وبيني غانتس وافيغدور ليبرمان، الذين شاركوا بجرائم تصل إلى مستوى جرائم الحرب إن كان في حربهم على قطاع غزة عام 2014 التي استمرت خمسين يوماً، أبادوا خلالها عائلات بأكملها، أو من خلال إصدار الأوامر والتعليمات بقتل المتظاهرين في القدس والضفة الغربية بدم بارد.
وفي الحقيقة، إن السلطة الفلسطينية سارت على طريق المواجهة بصبر وطول نفس وبشكل حثيث، فبعد أن نجحت في جعل دولة فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة، تتمتع بحقوق الكثير من الدول الأعضاء، بما في ذلك الانضمام إلى عشرات المؤسسات الدولية، ومن ضمنها المحكمة الجنائية، ورغم أنها لم تسارع على الفور، إلى تقديم الطلب الخاص بفتح ملف مساءلة قادة إسرائيل في جرائم الحرب التي ارتكبوها على مدار عشرات السنين، إلا أنها كانت بصبرها تريد أن تضمن النجاح، فتكتم الغيظ وتصبر على الجرح، حتى تجيء اللحظة المناسبة، ويتم ترتيب الأمر كما يجب.
هذه السياسة أدت إلى هذا الانجاز التاريخي غير المسبوق، والذي دفع وزير المواصلات الإسرائيلي بتسليئيل سموطريتيش للدعوة إلى حل السلطة خلال 48 ساعة إن لم تقم بسحب أو التراجع عن تقديم الدعاوى بالتحقيق مع إسرائيل في تلك الجرائم.
بالطبع الأمر ما زال في بدايته، ودون تقديم المدعية العامة للمحكمة بيان الادعاء، جولة من الصراع الحاد بين إسرائيل وفلسطين، ذلك أنه من المتوقع أن تتعرض المحكمة والقضاة إلى ضغوط هائلة خاصة من قبل الحليف الأميركي لإسرائيل، بهدف ثنيهم عن التقدم بذلك الملف، لكن مجرد تقديم الدعوى، يعني بأن الجناة من قادة إسرائيل لن يعرفوا النوم، ولا الراحة، والأهم هو أن ذلك يفتح مسارا حادا من الصراع، ما كان يخطر ببال إسرائيل وقادتها، حيث لن يقتصر الأمر على ممرات ودهاليز السياسة الضيقة، حيث تمتلك إسرائيل بتحالفها مع أمريكا قوة ضغط هائلة على قادة المنطقة وربما العالم أيضا، بعيدا عن أنظار العدالة الدولية، وأن إسرائيل شيئا فشيئا ستتحول إلى دولة مارقة بنظر القانون الدولي، وأن القضاء الدولي بالحجة الدامغة والبراهين المتحققة في الواقع سيظهر حقيقة إسرائيل كقوة قتل، ارتكب قادتها بصفاتهم الرسمية جرائم حرب، لن تدينهم كأشخاص فقط، بل ستظهر إلى أي حد أن دولة إسرائيل وهي تحافظ على احتلالها للأرض والشعب الفلسطينيين تقوم بارتكاب الجرائم المختلفة التي يعاقب عليها القانون الدولي.
ولعل في أول رصد بهذا الخصوص قامت به صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، ما يشير إلى أبعاد القضية التي ستطال مئات الشخصيات الإسرائيلية، حيث لن يقتصر الأمر على نتنياهو وغانيتس وليبرمان، بل سيطال رئيس الأركان رفيف كوفاخي ورؤساء أركان سابقين ووزراء الجيش الإسرائيلي ورؤساء الشاباك وقادة ألوية الجيش وحتى رؤساء المستوطنات، وأن الأمر لن يقتصر على الحرب على غزة عام 2014 بل سيطال قيام الجنود بقتل الشبان في الضفة الغربية ومتظاهري مسيرات العودة على الحدود مع غزة.
ولأن السلطة عملت بطول صبر وأناة، وسارت على طريق حماية الشعب ومقاومة الاحتلال بعد أن أغلق أبواب التفاوض ولم تقف مكتوفة الأيدي كما روج أو قال أو اعتقد البعض، فمن المتوقع أن يقدم مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الشهر المقبل على نشر ما يعرف بالقائمة السوداء الخاصة بالشركات التي تتعامل مع المستوطنات.
يدرك نتنياهو أنه لن يكون وحيداً في مواجهة هذه المشكلة، ذلك أنه لن يكون هو فقط المتهم في هذه القضية، ويدرك أيضا بأن الادعاء بعدم ولاية المحكمة القضائية على الأرض الفلسطينية بحجة أن فلسطين ليست دولة_ متناسياً بأنه إن كان هو لا يعترف بفلسطين كدولة، فإن الأمم المتحدة تعترف لها بهذه الصفة وهي أنها دولة تحت الاحتلال، لذا منحتها حق الانتساب لعضوية معظم مؤسساتها الدولية_ لن يمنع الادعاء الدولي من الاستمرار في التحقيق، لذا فإن مقاومة إسرائيل للادعاء الدولي ستركز على المستوى اللوجستي، أي محاولة الضغط على القضاة، من جهة ومن جهة ثانية عرقلة التحقيق في تلك الجرائم على الأرض، بعدم السماح لمندوبي المحكمة من الوصول إلى فلسطين وممارسة مهمتهم كمحققين.
هنا لا بد من تحمل المنظمة الدولية وكذلك الدول الكبرى مسؤولياتها الأخلاقية وتسهيل مهمة القضاء الدولي، واعتبار العرقلة الإسرائيلية المحتملة مشاركة في الجريمة وإعاقة لعمل المحكمة، وتهربا من العدالة.
أما الجانب الفلسطيني فعليه أن يواصل رباطة الجأش والتوحد الميداني_ على الأقل_ خاصة في كل ملفات مواجهة إسرائيل في المحافل الدولية وعلى الأرض_ ما دام التوحد السياسي ما زال غير قائم بسبب واقع الانقسام، لأن في هذا الملف أيضا هناك فرصة للزج بكل الشعب الفلسطيني في ساحة المواجهة، فمن حق كل من قتل له قريب أو من تعرض لأي مظهر من مظاهر جريمة الحرب أن يشارك في تقديم الشكاوى، أو على الأقل في تقديم البينات التي تساعد القضاء الدولي على الوصول إلى الحقيقة.