بقلم :رجب أبو سرية
بدأ فجر أمس مجلس النواب الأميركي إجراءات عزل ومحاكمة الرئيس دونالد ترامب، في محاولة تعد هي الرابعة في تاريخ الولايات المتحدة، التي يتعرض فيها رئيسها إلى مثل هذا الإجراء، منذ أن بدأ الأمر مع الرئيس أندرو جونسون عام 1868، ومر بالرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974، وانتهى بالرئيس بيل كلينتون عام 1998_1999، حيث من المتوقع أن ينشغل الرئيس ترامب والبيت الأبيض بهذه القضية، وهو الذي بات على أعتاب مواجهة استحقاق الولاية الثانية من الانتخابات الرئاسية.
أن يتعرض أربعة من بين خمسة وأربعين رئيساً للولايات المتحدة لإجراءات العزل، يعني بأن الحدث استثنائي بقدر كبير، ورغم أن بدء تلك الإجراءات لا يعني أن تنتهي بالعزل أو الاستقالة بالضرورة، حيث من بين الحالات الثلاث السابقة، اضطر فقط ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة وترك البيت الأبيض دون أن ينهي ولايته الثانية في البيت الأبيض، ليخلفه نائبه في ذلك الوقت جيرالد فورد، الذي ترشح بعد ذلك بعامين لانتخابات الرئاسة وفشل في البقاء بالبيت الأبيض، إلا أن تلك الإجراءات تضعف من قوة الرئيس وتؤثر على حظوظه الانتخابية، خاصة وأن ترامب يواجه إجراءات العزل خلال ولايته الأولى، وليس كما حدث مع كلينتون أو نيكسون.
من حسن حظ ترامب، أن مجلس النواب ذي الأكثرية الديمقراطية هو من يقود تلك العملية، في حين يحتاج الأمر ليتم عزله فعلياً إلى موافقة ثلثي مجلس الشيوخ، حيث الأكثرية جمهورية، أي أنه دون ترامب والبقاء في البيت الأبيض تصويت عشرين عضواً في مجلس الشيوخ من أصل مئة عضو، ومن أصل ثلاثة وخمسين جمهوريا في المجلس، باتت "رقبة" ترامب معلقة في أيديهم!
لكن من سوء حظ ترامب أنه دخل البيت الأبيض في ظل أغلبية ديمقراطية في مجلس النواب، تجمع على تلك الإجراءات ومعها 47 عضواً في مجلس الشيوخ، كذلك أن السابقة التي نجحت في فرض الاستقالة على رئيس أميركي من قبل كانت ضد رئيس جمهوري هو ريتشارد نيكسون، والأسوأ، هو أن الإجراءات تبدأ في وقت بدأت فيه الحملة الانتخابية فعلا، بحيث ستؤثر هذه الإجراءات على حظه في استمرار بقائه في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، ويا لغرابة الصدفة حين نعلم بأن إجراءات العزل تمت على أساس مكالمته مع الرئيس الأوكراني في أمر يخص المرشح الديمقراطي المحتمل في مواجهته جو بايدن.
في حقيقة الأمر، فإن إجراءات العزل الثلاثة السابقة جرت ارتباطاً بقضايا داخلية، فاندرو جونسون كان قد أقدم على عزل مسؤولين حكوميين كان عينهم سلفه أبراهام لينكولن، فيما كانت خلفية الإجراءات ضد نيكسون تصنت طاقمه الانتخابي على خصمه في الانتخابات جورج ماكغفرن، أما كلينتون فقد كان الدافع هو فضيحة المتدربة في البيت الأبيض مونيكا ليفنسكي.
وفي الحقيقة عادة ما يظهر الرؤساء الأميركيون، خاصة الجمهوريين منهم كرؤساء أقوياء، في ولايتهم الأولى، بما يؤهلهم للفوز بالولاية الثانية بسهولة، لكن ترامب ظهر على غير هذا التقليد، حيث ألهب مشاعر خصومه الديمقراطيين بسياساته المتخبطة التي أربكت الجمهوريين أيضاً، وخير دليل على ذلك حجم الاستقالات التي رافقت ولايته من بين أعضاء طاقمه السياسي الذي دخل معه قبل ثلاث سنوات البيت الأبيض أو الحكومة الأميركية.
ونادراً ما نشهد مثل هذه المعارضة الفعالة والواضحة لسياسة الرئيس الأميركي ليس فقط فيما يخص القوانين الداخلية، وهذا جوهر عمل الكونغرس، ولكن أيضاً فيما يخص السياسة الخارجية والتي هي أقل اهتماما لدى الناخب الأميركي.
إن جملة المواقف والقرارات التي بات يتخذها الكونغرس تباعا، باتت تظهر أن الشعب الأميركي ليس موحدا خلف رئيسه، بل إن ترامب بالكاد يظهر كرئيس لنصف الشعب الأميركي، وهذه الصورة ترافق صديقه وشريكه في التطرف السياسي، خاصة تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، نقصد بنيامين نتنياهو الذي ما زال يفشل طوال عام في تشكيل حكومة تنال ثقة الأغلبية البسيطة من ممثلي الشعب، بما يعني أنه يحكم طوال الوقت دون سند شرعي، أو أن نصف الشعب الإسرائيلي، لا يؤيد سياساته ولا يوافقه في إجراءاته.
ولأن التوغل في دخول حقول الألغام السياسية في القضايا الشائكة والمعقدة من مثل ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، يؤدي إلى نتائج عكسية، أو على أقل تقدير إلى ردود فعل صاخبة، فإن الملف الفلسطيني بالذات قد نال جزءاً مهماً من مواقف وقرارات الكونغرس، حيث ربما يكون هذا الملف الذي خرج فيه ترامب عن ثوابت الإدارات السابقة بما فيها الجمهورية، أحد حقول الصراع الانتخابي، حيث بالضد من تطرف ترامب الذي يراهن على اللوبي الصهيوني في إعادة انتخابه، يظهر خصمه الديمقراطي توازناً في هذا الملف يتوافق على أي حال مع الشرعية الدولية ومع مواقف الكتل الكونية خاصة الدول الأوروبية ومع مواقف الإدارات السابقة.
تماماً كما بات رجال الأمن في إسرائيل يحذرون من غلو سياسة نتنياهو تجاه الجار الفلسطيني، وبدؤوا يحذرون من نيته ضم غور الأردن والمستوطنات وإغلاق الطريق تماماً على حل الدولتين، أي أن نصف الشعب الإسرائيلي بات يرى في نتنياهو خطراً على أمن الدولة، كما بات نصف الشعب الأميركي يرى في ترامب تهديداً لمصالح الولايات المتحدة.
هنا نشير إلى موافقة الكونغرس بتحويل 150 مليون دولار للسلطة الفلسطينية وبتجديد دعم المشاريع المدنية، كذلك رفضه تمويل صفقة القرن، وعدد من المواقف السابقة الرافضة لإعلان وزير خارجيته اعتبار المستوطنات غير مخالفة للقانون الدولي.
وحيث أن عدو الشعب الفلسطيني يصل إلى نهاية طريق الشر، فما على الجانب الفلسطيني إلا أن يوحد صفوفه لطي أسوأ صفحة من صفحات الصراع من أجل إقامة دولته المستقلة، ونزع عبء الاحتلال البغيض عن كاهله.