الجوب عن هذا السؤال طُرح أكثر من مرّة، وخاب ظنّ السائلين في كل مرة.
لماذا كان يتمكن نتنياهو من الإفلات بصورة دائمة، وكيف استطاع أن يجد المنقذ المناسب لدى كل أزمة أو مأزق؟
ليس من السهل الإجابة المقنعة أو الشافية عن هذا السؤال، لأن المتابعين للشأن السياسي، وكذلك الحزبي من الكتّاب والصحافيين الإسرائيليين أنفسهم لم يتمكنوا من الإجابة عن هذا السؤال، بالرغم من كل المعرفة والإحاطة التي يتمتعون بها، وبالرغم من كل المعلومات المهمة والحساسة بحوزتهم، وبالرغم، أيضاً، من سلسلة متكاملة من العلاقات التي لديهم.
منطقياً، فإن محاولة الإجابة عن هذا السؤال من قبل المتابعين والمراقبين عن كثب للشأن الإسرائيلي من الكتّاب الفلسطينيين حتماً ستبدو أكثر صعوبة بما لا يُقاس.
لكنّ الحقيقة أن لهذه المسألة وجهها الآخر، لأن الكتابة عن نتنياهو وقدراته وأساليبه وألاعيبه من وجهة نظر «إسرائيلية»، سواء كانت مؤيدة أو معارضة، موضوعية في دوافعها أو ذاتية، مغرضة، متحاملة أو «متسامحة» فإن فهم أو عدم فهم بعض الاعتبارات يكبّل المتابعين والكتّاب الإسرائيليين، ويحدّ من صحة أو دقّة القراءة المطلوبة في مثل هذه الحالات.
لذلك دعونا نحاول مع الإقرار المسبق بفارق الإحاطة وفيض المعلومات، وأهمية العلاقات، معتمدين على درجة أعلى لدينا ككتّاب ومراقبين فلسطينيين من «التحرّر» المطلوب من تلك الاعتبارات الإسرائيلية الخاصة.
ولنأخذ المسائل تباعاً:
أولاً، الفساد: صحيح أن بعض الكتّاب الإسرائيليين تبنّوا موقفاً قوياً من فساد نتنياهو، لكنهم لم يتعرضوا بصورة كافية لأبعاد هذه المسألة.
والحقيقة أن نتنياهو قد تحول في غضون السنوات الطويلة له في «الحكم» إلى خبير محنّك بشؤون الفساد، ليس من زاوية الأساليب التي لجأ إليها لممارسة الفساد الذي اتهم به، وإنما من زاوية معرفته بنقاط ضعف «الحلفاء» على هذا الصعيد، وعلى إمكانيات استمالتهم وجرّهم إمّا إلى ساحة الفساد نفسها، أو إلى ساحة السكوت عن هذا الفساد.
في هذا الإطار بالذات يمكن تفسير هذا السكوت المريب عن درجة خطورة الفساد المفضوح.
هذه اللعبة هي لعبة مسكوت عنها في فهم ومعرفة قدرات نتنياهو المتفوقة على التحايل والتملص في الأزمات عَبر هذه القناة.
كما لا يستبعد أبداً ان يكون نتنياهو على معرفة تامة لكل ما يحيط أقطابه من كامل خريطة التحالفات الداخلية «الليكودية»، والحزبية الشاملة للتحالفات من قضايا فساد مشابهة.وفي مجال الفساد، أيضاً، يستطيع، وقد استطاع فعلاً ولمرات عديدة، التعمية على الكثير من جوانب الفساد الذي يتم التستر عليه بذريعة الأمن، خصوصاً وأنه قد كرس نفسه كـ»مستر أمن»، الحريص عليه والممسك بزمامه، وباعتباره المؤتمن عليه، والقادر الأوحد على تحريك خيوطه المتشابكة.
ثانياً، في مجال العلاقات العامة: معروف أن نتنياهو يتمتع بقدرات كبيرة في هذا المجال، وقد اكتسبها من تجربته لسنوات طويلة في الحقل الدبلوماسي، وفي الولايات المتحدة تحديداً، حيث إن مفهوم العلاقات العامة السائد هناك هو الإمكانيات المتاحة للمراوغة والخداع والتملص والابتزاز، إضافةً إلى الإغراء والتهديدات المبطّنة والصريحة، وصولاً إلى الإفراط في الوعود والعهود، وتحويل الالتزامات والشروط إلى مجرد مشاريع للتفاوض والمساومة، التي تتيح المسالك للتبرؤ والتنكر والتراجع، وإعادة التفاوض وتغيير المواقف، بل والانقلاب عليها كلياً إذا لزم الأمر.
ثالثاً، في مجال الإعلام والمواقف الأيديولوجية والسياسية: يخطئ من يعتقد أن نتنياهو ليس شخصاً «أيديولوجياً» متعصباً ومتغطرساً ومتشدداً إلى أبعد حدود التشدد. ويخطئ، أيضاً، من يعتقد أن مواقفه «الفكرية» والسياسية هي مغايرة لما يقوله في مجال الإعلام، وعَبر وسائله وأدواته.
وفي هذا الشأن تحديداً، فإن المتغيرات الواضحة في مواقفه التي تعكس حقيقة قناعاته الأيديولوجية والسياسية قلّما تكون مغلّفة بالمساحيق المطلوبة أحياناً، ولكنه قادر على تسويقها داخلياً وخارجياً بواسطة تضمين خطابه للنقيض والمعاكس، والذي يبقي الباب موارباً للتهرب في الاتجاهين، وحسب مقتضيات الحال.
وهنا يسجل له نجاحات باهرة في «إرضاء» الجميع وإغضابهم في الوقت نفسه، وفي وضع الجميع تحت انطباعات الشك واليقين في الوقت نفسه.
هذه الخصلة أو المواصفة تضعه في منزلة محيّرة بين الأيديولوجي المتشدد في حقيقته، والبراغماتي المرن في مظهره الخارجي.
رابعاً، في مجال السياسة الأمنية: هنا تبدو الأمور أكثر تشابكاً وتعقيداً، لأنه (أي نتنياهو) لا يُقْدِم على أي مغامرات طالما أن هذه المغامرات يمكن أن تهدد مخططاته الذاتية، وهو
صبور ولا يتعجّل ما يمكن أن ينطوي على حروب أو معارك قد تفسد عليه أهدافه.
في نفس الوقت يقدم، بل ويبادر إلى ضربات مضمونة تساعده في البقاء متوهجاً في مسألة الأمن كونه يعرف حساسية المسألة الأمنية لدى الجمهور الإسرائيلي، وصعوبة التشكيك في مدى «التزامه» بهذه المسألة.
قضية الغواصات كانت، وما زالت هي القضية التي تخدش هذه الصورة وهذه الهالة التي بناها حول نفسه، لكن نتنياهو كان قد احتاط لها بصورة محكمة على ما يبدو.
وبالعودة إلى سؤال هذه المقالة، إلى متى سيصمد نتنياهو، فإن الأمر الجديد هو أن كل هذه القدرات لم تعد مجدية، ولم يعد قادراً على الاستثمار فيها، ولم يعد لدى صنّاع الرأي العام في إسرائيل الكثير من المحاذير الإسرائيلية الخاصة، والاعتبارات من أي نوع كان للحديث بصورة ملموسة ومجددة عما أصبح يشكله ويمثله من عبء على الحالة السياسية والحزبية في إسرائيل.
لم تسعفه المسكّنات الترامبية بشيء، وتكشّف، الآن، أن «همروجة» التطبيع ليست ولن تكون بالأهمية التي روّج لها، وأزمة «كورونا» تمخّض عنها منع التجمعات ليس خوفاً على صحة الجمهور وإنما خوفاً من الجمهور، والأزمة الاقتصادية قادمة لا ريب فيها، والعروش تهتزّ في الولايات المتحدة إن كان على مستوى الرئيس أو على مستوى مجلسيّ النواب والشيوخ، وبالتالي فإن صمود نتنياهو لم يعد منوطاً بخصاله ومواصفاته وقدراته وإنما بات الوضع كله في دائرة الغرق والاختناق.
كان سهلاً، وكان ممكناً أن يستثمر نتنياهو في احتياجاته بناءً وتأسيساً على احتياجات الآخرين له، وبناءً على معرفته بالتهديدات التي تنتظرهم لمجرد تعرضه لأي تهديد.
راهن على ضعف خصومه وحاجاتهم، وراهن على درجة معقولة وأحياناً أكثر من معقولة من استقرار الوضع الاقتصادي، واستثمر في الميزات النسبية لبعض الصناعات الخاصة بالمجال العسكري والأمني، وعرف نقاط ضعف كل حليف ودرجة احتياجاته وحدود المساومة عليه ومعه، لكنه بات، الآن، مجرداً من الكثير الكثير من كل هذه الإمكانيات، بل وبات الرجوع إلى هذه «الدفاتر القديمة» أمراً مضحكاً أكثر منه مجدياً.
ذهبت تلك الأيام إلى غير رجعة عندما كان يبدو كالساحر المبهر، وحينما كان «يتبختر ويتقمبر»، لأن الوضع قد تبدّل وتغيّر.
النجدات الخارجية أصبحت شحيحة، وأوضاع «الليكود» ليست مريحة، والحلفاء من الاتجاهات أصبحوا يرون استمرار الحال صعبا أو محالا، وعليه فإن الصمود الذي سألنا عن استمراره في الزمن الإسرائيلي الراهن، قد بات على أعتاب النفاد، وحيث لم يعد لديه من مهربٍ ولا ملاذ.