لكلّ من يهمه الأمر من خارج نطاق الأبعاد الثلاثة في عنوان هذه المقالة ـ السياسة والتجارة وحُمّى المنافسة ـ والسياسة هنا التسيُّس تحديداً، فإن اللقاح الروسي أصبح حقيقة واقعة، ولم يعد هناك ما يمكن أن ينفيها.
كل ما يمكن الآن ـ من داخل الأبعاد الثلاثة، ومن يهمهم الأمر من القائمين عليها ـ أي المسيِّسين والتجار والمنافسين ومن يدور في فلكهم ـ هو التشكيك وإثارة «المخاوف»، أملاً في الدخول السريع إلى السباق، وطمعاً في أن لا تخسر شركات الأدوية لديهم فرصتها التي طال انتظارها دون أي بوادر للنجاح، وتعويلاً على تحويل الناس إلى مادة للمتاجرات السياسية.
لا يحتاج الإنسان أن يكون عالماً من علماء علوم الأوبئة لكي يتابع ويتتبع الأمر، وأن يشارك الرأي بهذه المسألة. لا يوجد في الواقع أمان مطلق لأي لقاح إلاّ بعد مرور عشرات السنين على تناوله، وأحياناً لا يوجد إمكانية لمعرفة الآثار الجانبية للقاحات قبل انقضاء هذه المدة أو أكثر.
الآثار الجانبية للقاحات التي تناولها الناس على مدار عشرات السنين الماضية، هي أقل تأثيراً مما كان يعتقد، والسبب العلمي لهذا الأمر هو قدرة الجسم الإنساني على المقاومة لهذه الآثار. والحقيقة العلمية المثبتة أن الآثار الجانبية موجودة ومؤكدة لكل دواء في هذا العالم، مقابل قدرة الأجسام على التكيف.
بل ويمكن الجزم أن ثمة من الآثار الجانبية للأعشاب الطبيعية، فما بالكم وأن الأمر يتعلق بمواد كيماوية مضافة إلى المواد الطبيعية؟
كل لقاح يحتاج إلى اختبارات سريرية مكونة من اربع مراحل كما هو متعارف عليه:
الأولى والثانية على أعداد تجريبية سريرياً. أما الثالثة فهي لزيادة التأكد على أعداد كبيرة نسبياً وفي مناخات مختلفة في بيئة مختلفة، وأحياناً لأعراق مختلفة. أما الرابعة فبعيدة المدى وليست على جدول أعمال أي لقاح ضروري.
اللقاح الروسي الجديد (سبوتنك V) مرّ واجتاز المرحلتين الأولى والثانية دون عوائق ومخاوف، وثبتت فعاليته العالية، وهو عقار مطور في تركيبته عن عقارات سابقة كانت قد تجاوزت المرحلتين الثالثة وحتى الرابعة، وبالتالي فإن المرحلة الثالثة منه والتي بدأت منذ الأمس، فقط هي لزيادة التأكيد وليس لاختبار صحة وسلامة وأمان اللقاح.
وبما أن العقار لن يكون جاهزاً للتسويق «العالمي» قبل ثلاثة أشهر من الآن فإن المسألة لا تحتاج إلى تكهنات سياسية أو تجارية، لأن العمل قائم على قدم وساق، والاختبارات ستجري في بلدان كثيرة وعلى أناس من كل الأجناس والأعراق والنتائج ستكون معروفة خلال عدة أسابيع فقط.
ولأسباب ليست سياسية ولا تجارية ولا تنافسية فإن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والمحللين يعرفون أن روسيا الاتحادية واحدة من أكثر بلدان العالم تطوراً في علوم الأوبئة، ويعرفون أن هذا التطور العلمي الكبير معروف لكل الدول، ولكل معاهد البحث العلمي في هذا المجال، والتقدم الروسي معترف به وموثق وخارج الحسابات السياسية والتجارية.
يضاف إلى ذلك ان دولاً كبيرة ومعاهد وجامعات عريقة على امتداد هذه الدول حاولت التعاون مع روسيا للوصول إلى هذا اللقاح، والأرجح أن تعاوناً ما قد حصل بالفعل على هذا الصعيد.
روسيا لديها قائمة كاملة بالدول والجامعات والمعاهد التي كانت تنشد مثل هذا التعاون.
اللافت هنا هو الإعلانات والإيحاءات التي صدرت عن خصوم روسيا من أن الحكومة الروسية تسرّعت من أجل «الريادة»، وأنها ربما «تضحي بشعبها لأسباب تجارية وتنافسية»..! مع العلم أن روسيا هي البلد الوحيد في العالم الذي تعامل مع مريض الـ»كورونا» ليس بالاعتماد على الفحوصات المخبرية فقط، وإنما على التصوير المقطعي للرئة خوفاً من أن تكون هناك أخطاء «مخبرية»..!
وبالقياس إلى مؤشرات معتمدة عالمياً فإن نسبة الوفيات بالمقارنة مع عدد المصابين ونسبة التعافي، أيضاً، فإن روسيا واحدة من أفضل بلاد العالم إن لم تكن الأفضل على الإطلاق.
وبما أن روسيا قد أعلنت على رؤوس الأشهاد أنها بدأت بالفعل إعطاء اللقاح إلى طواقمها الطبية فهل يعتقد هؤلاء المغرضون أن روسيا تغامر بأطبائها وعلمائها من أجل «إعلان ريادي»..؟!
هذا إسفاف سياسي ما بعده إسفاف.
وعندما يتم الحديث من باب «الغمز» على تسرع الروس بالإعلان عن لقاحهم بأن «الغرب» لديه مقاييس أكثر تشدداً حيال مسألة اللقاحات.. فلماذا لم يلاحظ هؤلاء كيف يعالج مرضى «كورونا» في بلدان الغرب، وما هي حصيلة التجربة على هذا الصعيد؟
ألم يدفنوا في مقابر جماعية؟!
ألم يمت عشرات الألوف دون أن يسمح لهم بالدخول إلى المستشفيات؟
ألم تكن في الواقع أمام مأساة إنسانية بكل ما في هذه الكلمة من معنى؟!
الحقيقة أن اللقاح الروسي قد وجّه لطمة لكل تجار السياسة الذين حاولوا تسييس المرض ووصفوه بالمرض الصيني.
الم تقل زعيمة المعارضة الأميركية «بيلوسي»، إن الواجب يقتضي تسمية الفيروس بفيروس ترامب؟
من الذي ضحى بشعبه، وفتح بلاده لأرباح الشركات على حساب ملايين الناس، وذلك في إشارة إلى مسؤوليته المباشرة عن كارثة «كورونا» في الولايات المتحدة؟!
وهل كان الأمر أفضل حالاً في بريطانيا العظمى؟!، وقبلها في إسبانيا وإيطاليا وكل بلاد الغرب «المتشدد» في مسألة إنتاج اللقاح!
على كل حال السؤال الآن ماذا سيفعل هذا الغرب المتشدد، وكيف سيتصرف إزاء اللقاح الروسي؟!
وطالما أن أكثر من عشرين بلداً أبدت اهتماماً خاصاً بهذا اللقاح من بينها حتى الآن بلدان كبيرة مثل الهند والبرازيل فهل سيتشدد الغرب وينتظر أن ينتج اللقاح الخاص به، أم ان شركات القطاع الدوائي لدى هذا الغرب ستشتري اللقاح وتوزعه على مساكين هذا الغرب بأسعار احتكارية؟!
هناك أكثر من 200 محاولة في العالم لإنتاج اللقاح، وهناك من الدول من قطع شوطاً كبيراً باتجاه إنتاجه، وهناك من الدول من يتعاون على أسس ثنائية ومتعددة للوصول إليه، والمقاييس العلمية الصارمة ليست هي سبب «تأخر» الغرب في الوصول إليه وإنما ـ وهذه هي الحقيقة ـ عدم ثقتهم العلمية فيما وصلوا إليه. ألم نشهد مسرحية لترامب وعالمه الشهير؟! حول اللقاح؟
هذا هو الأمر بكل وضوح وبساطة.
الأفضل للعالم أن يتعاون مع روسيا وأن يشارك في دقة الاختبارات، وأن يضع جانباً تسييس اللقاح، وأن يخرجه إلى خارج نطاق المتاجرة السياسية والتنافس غير النزيه، وأن يضع مصلحة مواطنيه فوق اعتبارات شركات الدواء واحتكاراتها، وأن يعترف بالواقع بدلاً من المكابرة، وبدلاً من التشكيك المسبق بكل ما هو غير غربي.
من حق الرئيس الروسي أن يبتسم، من حقه أن يفتخر، ولكن من واجبه، أيضاً، أن يقدم اللقاح إلى فقراء العالم ومعدميه قبل أن يقدمه لأحد. ذلك أن شركات الدواء الاحتكارية العالمية تخطط للمتاجرة بأرواح الناس.