في نهاية المقال السابق، قلتُ إن قرار التقسيم هو الحل الأمثل لحل المسألتين الفلسطينية واليهودية على حدٍّ سواء، وهذا الحل على أساس قرار التقسيم هو الحل الوحيد الذي يمكن أن يعالج القسم الأكبر والأهمّ من قضايا الصراع القائم على هذه الأرض الشرسة بتعبير محمود درويش منذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان. لا يحتاج المرء إلى عناءٍ خاص لمعرفة وإدراك عجز الحلول الأخرى عن تقديم معالجات حقيقية لقضايا الصراع إن كان لجهة انتظارية وارتهانية حل الدولة الواحدة او الدولة الثنائية القومية، أو الدولة المقيّدة على حدود الرابع من حزيران، وافتقارها كلها لحق حقيقي بتقرير المصير.
كما لا يحتاج المرء إلى جهد عقلي مميز لإدراك أن الرهان على الوصول إلى مجتمع إسرائيلي عقلاني ومتسامح، ومستعد لمساومة تاريخية، خارج نطاق منظومات السيطرة والتحكم والهيمنة، المؤسسة على أيديولوجية عنصرية وإقصائية وإحلالية، وتتناقض مع جوهر المشروع الصهيوني، ودوره ووظيفته الكولونيالية إن كان لجهة عدوانية وتوسعية هذا المشروع أو لجهة قدراته وأدواته وتحالفاته... ان الرهان على كل ذلك أمر مستحيل عقلانياً ومنطقياً، ومحفوف بمخاطر الارتداد، وبمغامرةٍ خطرة على الحقوق الوطنية الفلسطينية.
قرار التقسيم أو المقاربة التي يمكن أن تبنى عليه لا يتطلب أن يصل المجتمع الإسرائيلي إلى تلك الدرجة من العقلانية والتسامح، ولا يشترط ويفترض ذلك بالضرورة، حتى وإن كان القبول بهذه المقاربة تحتاج حتماً إلى تحولات سياسية جذرية تقطع بالضرورة مع المسار العدواني المتغطرس للمشروع الصهيوني.
قد يقول قائل: إذا كان المشروع الصهيوني يرفض إقامة دولة مقيّدة على حدود الرابع من حزيران فهل سيقبل بقرار التقسيم؟ وهل سيقبل (خصوصاً) في ظل التوازن القائم على الأرض بحق العودة، أو بدولة واحدة أو بدولة ثنائية القومية؟
سؤال مشروع ووجيه، ولكن الإجابة عنه ممكنة وسهلة ومنطقية. عندما نطرح مقاربة قرار التقسيم أو أيّ حل آخر لا يجوز أن ننطلق من نظرة المشروع الصهيوني لهذا الحل، وموقفه منه، وإنما من منطلق ما يحققه لنا هذا المشروع من أهدافنا وحقوقنا الوطنية في حال ان تم الوصول الى تحقيقه، وفي حال امكن الوصول إليه.
الأمر ببساطة أن المشروع الصهيوني المجسّد لصورة رئيسية في دولة الاحتلال يرفض كل الحلول باستثناء السيطرة والتحكّم والإقصاء والنفي والترحيل والحصار والمصادرة والتهويد والسطو على جغرافية الفلسطيني وتاريخه وثقافته وهويته.
ولهذا فإن طرح مقاربة للمصالحة التاريخية ليست بأي حال من زاوية قبول المشروع الصهيوني بها، وإنما من زاوية قبولنا نحن بما تستجيب لجزء كبير من حقوقنا الوطنية بما فيها أعلى درجة ممكنة من حق تقرير المصير، منطلقين من واقع وجود مجتمع إسرائيلي بات له هوية أو هي في طور التكوين، ويتطلع إلى أن يكون لديه كيانه الخاص، المنفصل عن الكيان الفلسطيني، ولكن المتعايش معه والمتعاون معه، والمستعد لتقاسم أعباء ومسؤوليات وأخلاقيات العيش المشترك على أساس من التسليم المتبادل بهذه الحقيقة.
والذي أراه بكل صراحة ودون مواربات أو محاججات زائدة أن مشروع الدولة الواحدة أو مشروع الدولة الثنائية القومية هو مشروع مستحيل قبل تحقق مقاربة قرار التقسيم كخيار حر وديمقراطي وطوعي ممكن.
أقصد أن الانفصال أولاً هو الحق والعدل والممكن والضروري. أما الدولة الواحدة أو الثنائية فهي مجرد خيار طوعي مستقل. وعندما نتحدث عن مساومة تاريخية فمن الواضح تماماً أننا نتحدث عن تنازل فلسطيني مقابل:
• واقع وجود مجتمع إسرائيلي له هوية كيان وتطلعات خاصة.
• واقع تسليم العالم كله بهذا الواقع.
• واقع وجودنا في الطرف الضعيف من معادلة الصراع حتى بعد تعديل كبير في ميزان هذه المعادلة.
وحقنا في فلسطين هو الثابت، في حين أن ما يسمى الحقوق «الإلهية» وأساطير الرواية الصهيونية فليس لها أي أسانيد باستثناء الرواية التوراتية التي توازي بين التاريخ وهذه الرواية.
أي أن مقاربة قرار التقسيم هي مقاربة سياسية لاعتبارات موضوعية عملية ولاعتبارات أخلاقية إنسانية.
هذه المقاربة لا تنتقص من أهمية وأحقية الرواية الفلسطينية القائمة على منطق التاريخ الحقيقي وليس المتخيل، وعلى وجود تاريخي أصيل.
وكل تنازل عن كامل استحقاقات الرواية الفلسطينية الداعمة للمسألة الفلسطينية هو تنازل هادف للتعايش وتعبير عن منطق التحرر والتقدم الاجتماعي، ومن منطق وعي الضرورة الحيوية للمجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي على حدّ سواء.
إلى يومنا هذا لم يثبت من الناحية الأركيولوجية أي آثار تدعم الرواية التوراتية والصهيونية، بل على العكس تزداد نظرية الباحث المرموق كمال الصليبي، ثم الباحث الفذّ فاضل الربيعي، وقبلهم الباحث الكبير فراس سوّاح، وأخيراً وليس آخراً الأفكار التي كتبها الشاعر والباحث زكريا محمد، ناهيكم عن المؤلّفات الكلاسيكية المعروفة حول هذه المسألة، وأن التواجد اليهودي لم يكن تواجداً يعتدّ به من زاوية الكيانية المستقرة، أو التواصل التاريخي والحضاري.
والآن، لماذا مقاربة قرار التقسيم هي المقاربة الأهمّ في سلسلة المقاربات والحلول التي تم ويتم ويتواصل الحديث عنها؟
أولاً: لأن قرار التقسيم هو اعتمد من عصبة الأمم المتحدة وكان هو الأساس القانوني للاعتراف بدولة إسرائيل واشترط القرار التزام إسرائيل به والتقيّد بمقتضياته، معتبراً أن أي خروج عنه أو عدم الالتزام بشروطه ومتطلباته هو بمثابة خرق للقانون الدولي والشرعية الدولية.
ثانياً: يضمن القرار حق تقرير المصير على مستوى الدولة الوطنية لكل من الفلسطينيين واليهود على حدٍّ سواء.
ثالثاً: يتضمن القرار الحل المتكامل لقضية القدس باعتبارها خاضعة بموجب القرار لإدارة دولية.
وعليه إما أن تكون كامل القدس خاضعة لإدارة دولية أو يُعاد تقسيمها إدارياً بما يحافظ على مكانة الأماكن المقدسة فيها كما جاء في تفاصيل القرار حول هذه المسألة.
رابعاً: الحدود واضحة وكل تداخل فيما بينها منصوص فيه على كيفية التعامل مع هذا التداخل.
خامساً: لا يوجد شيء بموجب القرار اسمه أمن لطرف دون آخر أو على حساب أمن الآخر.
سادساً: العلاقات الاقتصادية بين الدولتين لها مؤسسات مشتركة متساوية ومتوازية ولها نفس الأهداف وتنبع من المصالح المشتركة ولها، أيضاً، نفس منظومة الأولويات دون غبن أو إجحاف أو تحكّم أو سيطرة أو هيمنة.
من المؤكد أن مياها كثيرة قد جرت منذ صدور القرار، وأن مياها كثيرة ستجري إلى أن يتم التوافق على المبادئ والأسس التي تضمنها القرار، لكن الشيء المؤكد أن مقاربة قرار التقسيم هي مقاربة فعالة، وهو القرار الذي يمكن أن يحقق للشعب الفلسطيني كيانه الوطني وهويته الوطنية وعودة اللاجئين إلى دولتهم بعد تعويضهم عن كل ما لحق بهم من ظلم وإجحاف، وهذا هو الركن السابع والأهم في إطار هذه المقاربة، لأن قضية العودة هي واحدة من أهم أركان القضية الفلسطينية، إن لم تكن هي الأهم كونها هي التعبير الأعمق عن الظلم التاريخي الذي لحق بهذا الشعب.