جوابي المباشر عن هذا السؤال [المسألة] بنعم.
بطبيعة الحال والأحوال سيعتبر البعض منّا ـ ومن حقه ذلك ـ مجرد طرحه هو بحد ذاته واحدة من «الكبائر» السياسية، في حين أن البعض الآخر سيعتبر الإجابة بنعم مسألة تدعو إلى الريبة، إن لم تكن إلى الصدمة بعينها.
مقابل هؤلاء، لا يُستغرب أبداً أن يتلقف آخرون مثل هذا الطرح، باعتباره علامة «نضج» سياسي، ومؤشرا على واقعية سياسية باتت أكثر من ضرورية، وذلك من موقف الرهان والمراهنة، إن لم نقل الارتهان لحوار كهذا أو دونه، كمدخل مناسب أو وحيد لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة، والتعامل «المرن» مع متطلباتها.
كما لا يخلو الأمر أيضاً من أولئك الذين سيعتبرون أن السؤال هو سؤال مشروع، والأمر يتعلق بالفلسفة التي تقف خلفه، والمضمون الذي يمكن أن ينطوي عليه، وبجوهر ما يهدف إليه، وما يمكن أن يحقق للمسألة الوطنية، وانعكاساته الإيجابية أو السلبية على مسار تطورها اللاحق.
دعونا الآن نحاول الإجابة عن السؤالين التاليين، لكي نجيب في النهاية عن فائدة وأهمية الحوار مع الولايات المتحدة:
لماذا الآن، وما الذي تغير واستجد في تبرير وتفسير هذا الحوار؟ في الواقع فإن الإجابة عن سؤال [لماذا الآن] منوطة بالإجابة عن السؤال الذي استجد وتغير والعكس صحيح أيضاً.
الذي استجد هو شيء كبير ومهم وغير مسبوق.
ولعلّ عنوان هذا التغير هو ما حدث مؤخراً في الولايات المتحدة نفسها.
ورغم أن أميركا هي أميركا من زوايا ثوابت كثيرة حيال موقفها من الصراع في المنطقة، ومن زاوية علاقتها بإسرائيل، وفهمها لدور إسرائيل في منطقة الإقليم، والتعويل على هذا الدور، وحمايته وأولوية بقائه متفوقاً، إلا أن إدارة ترامب انتقلت بهذا الموقف من مرحلة إلى أخرى جديدة، وتطورت مسألة حماية هذا الدور والدفاع عنه ورعاية تفوقه إلى محاولة فرض هذا الدور وتكريس تفوقه وهيمنته التامة على قاعدة [تصفية] الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى أنقاضها بالكامل.
ليس هذا فقط، وإنما سعت إدارة ترامب إلى توظيف كل إمكانياتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، إضافة إلى العسكرية والأمنية لتحقيق هذا الهدف كما تمثل في موجة التطبيع الذي فرضته على بعض البلدان العربية، إلى درجة أن «الإنجار» الوحيد والأوحد الذي حققه ترامب هو هذا التطبيع وليس هناك باعتراف القاصي والداني من أي إنجاز غيره.
ترافق كل ذلك مع وجود حكومة إسرائيلية متطرفة من عتاة اليمين، واليمين المتطرف، ووصلت الأمور إلى فرض بقاء هذه الحكومة بالضغط الذي ستكشفه لنا الأيام، على حزب «أزرق ـ أبيض» لشق معسكر الوسط والتحالف مع نتنياهو لإنقاذه بكل السبل والوسائل التي نعرف بعضها، ولكننا ما زلنا نجهل الكثير من خفاياها.
إذا قُدّر لإدارة بايدن أن تستقر في استلام مقاليد الأمور في الولايات المتحدة، من زاوية تجاوز الأزمة الأخيرة بعد اقتحام مبنى الكونغرس، والنتائج التي ستفضي إليها، ومن زاوية التهدئة الداخلية التي باتت أولوية مطلقة للإدارة الجديدة، ومن زاوية تجاوز تبعات الجائحة على الاقتصاد الأميركي في الأشهر القليلة القادمة وبدء الخروج من عنق الزجاجة.. إذا قدر أن يتم كل ذلك، وأن تبدأ الإدارة الجديدة بالتعامل مع ملف الأزمة الشرق أوسطية في شقها الإيراني وشقها الفلسطيني، فإن هذه الإدارة ستكون مستعدة لحوار كهذا، لأنه يمكن أن يساعدها ويحفزها للانفتاح عليه والتعامل الجدي مع مضمونه وأهدافه.
باختصار الولايات المتحدة ربما ستكون وللمرة الأولى في تاريخها الحديث في وضع ستكون فيه مضطرة للتعامل مع حوار من هذا القبيل بنظرة جديدة وبجدية هي أعلى من أي فترات أو مراحل سابقة.
يضاف إلى ذلك أن مياهاً كثيرة قد جرت في نهر الحزب الديمقراطي، إن كان على صعيد ازدياد دور ومكانة الجناح التقدمي فيه، أو كانت على صعيد تغيرات طرأت على قناعات الجناح الوسط في هذا الحزب بعد المواقف المهينة التي وقفها اليمين الإسرائيلي واصطفافه «الوقح» لصالح ترامب وجناحه المتنفذ في الحزب الجمهوري.
وباختصار أيضاً فإن الحزب الديمقراطي بعد سيطرته على الرئاسة وعلى الغرفتين التشريعيتين (النواب والشيوخ) بات أكثر قدرة على «تفهّم» المطالب الفلسطينية، وهو ما يعني أن المبادرة من الجانب الفلسطيني باتجاه حوار كهذا ستسهم حتماً في تسهيل مهمة الحوار.
وإذا ما ربطنا الموقف الدولي من حل الصراع بالتطورات في الولايات المتحدة بعد هزيمة ترامب، وبانتظار هزيمة الترامبية في مرحلة لاحقة، فإن مبادرة من قبيل التي نتحدث عنها وندعو إلى عدم التأخر بطرحها ستكون في موضع الترحيب الواسع كما أرى وأعتقد. خذوا الموقف الأوروبي على سبيل المثال.
فرغم تعارض الموقف الأوروبي مع معظم السياسة الترامبية حيال ملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أنه فشل في النأي بنفسه والتقدم إلى حدود الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والذي كان كفيلاً بتصفية كل مساعي ترامب وإحباطها وتقويض كل مفاعيلها. كما لم يتخذ الاتحاد الأوروبي ولم يتجاوز [إلا في حالات قليلة وفرعية] موقف الاستنكار والتنديد، ما يعني أن الموقف الأوروبي أضعف من لعب أي دور مستقل يمكن الاعتداد به.
المبادرة الفلسطينية للحوار مع الولايات المتحدة ستشجع الاتحاد الأوروبي للانخراط النشط في الدور السياسي، وكذلك لاستكمال دوره الاقتصادي، وربما بما يصل إلى بلورة حل سياسي جديد أقرب إلى الحل المتوازن، وربما للمرة الأولى أيضاً، لأن هناك فرقا كبيرا بين الموقف الخاص لأوروبا وبين التوافق الأوروبي الأميركي على حل معيّن.
كما أن مبادرة من هذا النوع ستسهم حتما في التأثير على الواقع الإسرائيلي الذي نعرف الآن أنه واقع مأزوم، وأن سيطرة اليمين واليمين المتطرف في هذا الواقع فقدت عاملها الخارجي الهائل التأثير الذي مثلته السياسة الترامبية، والهزيمة الماحقة المتوقعة لجناح ترامب في الحزب الجمهوري على طريق محاصرة الترامبية على المستوى الأميركي الشامل.
إسرائيل المأزومة بأزمة اليمين الذي «تيتّم» مع هزيمة ترامب هي في أوج غطرستها من جهة، ولكنها في أوج هشاشتها السياسية وانسداد الخروج والمسالك من هذه الهشاشة والأزمة من جهة أخرى.
عنصر القوة المتغطرسة يمكن أن يكون عامل قوة وتماسك داخلي إسرائيلي بوجود الترامبية، وقد كان فعلا كذلك، لكن هذا العنصر يفقد أهميته إلى حد كبير عندما يصبح ترامب مطارداً هو وكل طواقمه المقرّبة، وأعوانه من عتاة اليمين في أميركا.
أما الوضع العربي والإقليمي والذي نعرف جيداً أنه رضخ لترامب إتقاءً لشروره، وخوفاً من بطشه، فسيجدون في المبادرة الفلسطينية «ضالتهم» من أجل إعادة الحوار مع الإدارة الجديدة في واشنطن متدثّرين بهذه المبادرة بدلاً من بقائهم في موقع الرضوخ الذي كان عليه موقفهم طوال السنوات الأربع السابقة والذي من المنتظر أن يدفعوا ثمناً له.
نحن نعرف جيدا أن قسما من العرب قد باع فلسطين وقضيتها وشعبها مقابل البقاء في الحكم ـ كما يتصورون ـ، وأن قسماً من العرب بدلا من أن يضغط على أميركا يقوم بمقايضة حقوقنا بمكتسباتهم الخاصة، وأن قسماً آخر يريدنا ورقة في أجندته السياسية، وأن قلة قليلة ممن كانوا على تماس مباشر بالصراع مع إسرائيل يرون في تحقيق حقوقنا الوطنية مصلحة وطنية وقومية لهم.. نعرف ذلك جيداً، لكن المهم والأهم ليس صحة ودقة هذا التشخيص، وإنما «إجبار» النظام العربي على الانخراط في العملية السياسية من دون خضوع أو رضوخ أو الاستجابة للابتزازات.
هنا بالضبط يمكن اعتبار المبادرة الفلسطينية للحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة المدخل المناسب لإعادة انخراط النظام العربي بقدر ما هو ممكن الحديث عن بقاء نظام كهذا في العملية السياسية بما يخدم الأهداف الوطنية الفلسطينية.
أما مضمون المبادرة وركائزها السياسية وحتى القانونية، فهي موضوعات لمقالات قادمة.