بقلم : عبد المجيد سويلم
تظاهرة مساء السبت في ميدان رابين محطة مهمة، وقد تكون مفصلية في معادلة الصراع مع الاحتلال ومع العنصرية وتصاعد الفاشية في إسرائيل.
تراجع دور ومكانة حركات السلام والأحزاب «اليسارية»، والكثير الكثير من القوى السياسية والاجتماعية المناهضة للاحتلال والعنصرية في العقدين الأخيرين أشاع الكثير من أجواء اليأس، والذي وصل إلى درجة «الكفر» بهذا الدور وهذه المكانة في صفوف عامة الفلسطينيين.
لم تكن هذه القوى المناهضة للاحتلال في المجتمع الإسرائيلي في أي يومٍ من الأيام قوية أو جارفة حتى في ظل الأجواء التي سادت بعد اتفاقيات أوسلو مباشرة، والسنوات القليلة التي أعقبت التوقيع على هذه الاتفاقيات، ولكنها مع ذلك ظلت «تقاوم» صعود اليمين وهيمنته على المجتمع الإسرائيلي، وبقيت تحاول وقف «تدهور» الحالة السياسية في إسرائيل نحو العنصرية والتطرف الديني والقومي. ونحو الانحدار الخطير باتجاه تقويض كل فرص تحقيق سلام متوازن ومنصف أو عادل بالمعنى النسبي الذي نعرفه جميعاً في حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران، وحقه في العودة وفق قرارات الشرعية الدولية.
لم تتم إلى يومنا هذا مقاربة موثوقة، أو حتى دراسة وبحث أسباب تراجع قوى مناهضة الاحتلال والعنصرية إلا في إطار المقاربات والأبحاث التي رصدت التحولات العميقة التي طرأت في المجتمع الإسرائيلي نحو المزيد من التغوّل اليميني، وتمت معالجة ذلك التراجع في المعادلة العامة لتلك التحولات.
أزعم هنا أننا ما زلنا نفتقد لرؤية متكاملة في بعديها النظري والفكري، وكذلك في أبعادها السياسية والاجتماعية.
وأقصد من (أننا) هنا الجانب الرسمي الفلسطيني، والجانب الفصائلي، والقوى والأحزاب، والمنظمات الاجتماعية والأوساط الثقافية والأكاديمية الفلسطينية، مع أن منظمات سياسية واجتماعية في إسرائيل لديها مثل هذه الرؤية بهذا القدر أو ذاك، وإلى هذه الدرجة أو تلك، لكنها مع ذلك وبالرغم من الاختلاف عن هذا الغياب والافتقاد لدى الجانب الفلسطيني الذي أشرنا إليه، إلاّ أنها تفتقد هي الأخرى للمقاربة المطلوبة، مع استثناءات لدى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وبعض القوى الأخرى.
في الجانب الرسمي والفصائلي وكذلك الأهلي والشعبي الفلسطيني تتراوح المواقف وتتشابك بين من يؤمن بدور المجتمع الإسرائيلي وقواه الحيّة والتقدميّة في وحدة الكفاح ضد الاحتلال والعنصرية العدوانية التوسعية، وضد تصاعد أخطار الفاشية ويعمل على تعزيز هذه الوحدة، وبين من يؤمن بها في إطار سياسي تكتيكي مؤقت، في حين هناك من لا يؤمن بمبدأ هذه المسألة من أساسها، ويعتبر أن المجتمع الإسرائيلي كتلة متراصة واحدة لا فرق فيه بين «مواطن» ومستوطن، ولا فرق فيه بين غني وفقير، وبين ظالم ومظلوم، أو بين جندي وبائع فلافل.
كما أن هناك هوة كبيرة بين ما ورد ويرد في الوثائق الرسمية، إن كان على صعيد المنظمة أو الفصائل بالإشارة إلى أهمية هذا الدور وما بين العملية والممارسات التي يفترض أن تعكس جوهر تلك الوثائق.
وهنا يختلط الحابل بالنابل بين من يعتبر الاتصال والتواصل والتنسيق مع هذه القوى واجبا كفاحيا وبين من يعتبر وجود القائد والمناضل محمد بركة في حفل تأبين في جامعة بيرزيت «تطبيعا»، ووجود الصحافية التقدمية الإسرائيلية «عميرة هس» في الحرم الجامعي وكأنه «الخطر» المحدق بالحقوق الوطنية الثابتة.
وللأسف الشديد فقد خضعت قوى سياسية ومنظمات اجتماعية وثقافية لمفاهيم «الإسلام السياسي» المتشدد حيال هذه المسألة الحساسة، وتحولت بعض الأوساط داخل بعض اليسار الفلسطيني إلى دعاة وحماة لأفكار من هذا القبيل عفا عليها الزمن وتجاوزتها كل منظومات الفكر والسياسة في عالم اليوم.
تظاهرة تل أبيب محطة مهمة في إعادة الاعتبار للأهمية الخاصة لتحالف استراتيجي مؤكد وكبير ومفصلي بين كفاح الشعب الفلسطيني من أجل حقه في تقرير مصيره وفي الحرية والاستقلال وفي المساواة في الداخل لأهلنا هناك، وضد العنصرية وتصاعد الفاشية وبين دور القوى التقدمية اليهودية من أجل هذه الحقوق وهذه المساواة ضد خطر الفاشية على مستقبل علاقات الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي اليهودي، وعلى علاقات التعايش المطلوبة بينهما.
هذه التظاهرة هي محطة مفصلية لأنها تأتي في ظرف سياسي خاص يتميز بانتقال اليمين المتطرف في إسرائيل من دائرة التهديد بالضم إلى دائرة المباشرة الفعلية بهذا الضم، وهي محطة مفصلية لأنها تأتي في إطار إعادة اصطفاف سياسي جديد يتيح لليمين الإسرائيلي أغلبية كافية لتشريع هذا الضم، وهي تأتي في لحظة سياسية أميركية حساسة تعلن من خلالها الإدارة الأميركية موافقتها على هذا الضم وإطاره العام بانتظار اللحظة (المواتية).
وتأتي هذه المحطة بالمقابل في ظل تفاقم أزمة الإدارة الأميركية، إن كان على صعيد مفاعيل «كورونا»، والنتائج الاقتصادية الكارثية لهذه الجائحة، وفي ظل الاضطرابات الجارفة فيها ضد العنصرية وضد حريات الرأي والتعبير وضد تصاعد أخطار الفاشية على المجتمع الأميركي.
ليس هذا فحسب، فإن هذه التظاهرة تأتي بالتزامن مع رفض دولي كاسح لسياسة اليمين الإسرائيلي المدعوم من اليمين الأميركي المتصهين والعنصري، ووسط دعوات عالمية للوقوف ضد العنصرية الأميركية والإسرائيلية.
رسالة بيرني ساندرز إلى المتظاهرين في وسط الميدان كانت بمثابة إعلان عن دعم دولي وأميركي للسلام والمساواة والكفاح ضد العنصرية، وعن تحولات مناهضة لسياسة ترامب داخل الولايات المتحدة وضد أقرانه وحلفائه في إسرائيل، وهو ما يعطي لهذه التظاهرة أبعاداً لم تكتسبها أي تظاهرة سابقة، لأنه لم يكن للقائمين عليها مثل هذا الحلف الأميركي والدولي المنتظر، إضافة إلى الحلف الفلسطيني الكاسح والعربي المهم.
إنها المرة الأولى التي تلتقي فيها أهداف هذه التظاهرة مع إرادة المجتمع الدولي، ومع قطاعات أميركية كبيرة وغير مسبوقة، رسمية وشعبية، ومع قطاعات تزداد اتساعاً داخل المجتمع الإسرائيلي، ومع إجماع فلسطيني كامل ضد سياسة الضم ومع مواقف إقليمية رافضة لهذا الضم، ويرتفع صوت رفضها شيئاً فشيئاً.
كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها رفع شعارات تتصدى للضم في إطار رفض الاحتلال والمطالبة بإنهائه، وفي إطار تبني حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه.
هذه التظاهرة من حيث مضمون ما تعبر عنه سياسياً وثقافياً، وما تنطوي عليه من أهداف وأبعاد ستتعزز مع زيادة أزمة نتنياهو، وحساسية خياراته في إطار العزلة السياسية المنتظرة لإسرائيل، وفي ظل «ترنّح» إدارة ترامب، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي سيعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي بعد ظهور النتائج الاقتصادية عليه جراء الخسائر التي تكبدها من الجائحة، وأزمة لائحة الاتهام التي تحولت إلى مفصل سياسي وديمقراطي خطير من حيث إن التملص من اللائحة لن يتم أبداً إلا بواسطة وعلى حساب كل منظومة القضاء في إسرائيل.
وحينها وربما حينها فقط يمكن الحديث عن التقاء وتضافر العوامل السياسية والثقافية من جهة مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى.
هناك سنرى الأهمية المفصلية لهذه التظاهرة وكيف أنها كانت فاصلة ومحطة حاسمة لمعركة فلسطينية يهودية مشتركة.