وحتى يكون السؤال أكثر تحديداً: هل سيلقى نتنياهو نفس مصير الرئيس المنتهية ولايته وكيف؟
من حيث المنطق فإن مراهنة ترامب على نتنياهو قد فشلت مع سقوط الأول، ومن حيث المنطق فإن مراهنة نتنياهو على ترامب لم تفشل بعد، ولهذا فإن مصير نتنياهو ليس هو الاختفاء مباشرة بعد فشل ترامب وسقوطه المنتظر، بالرغم من كل ما يقال، وما يمكن أن يتوقع من زوبعات سترافق الفترة الفاصلة بين الفشل والاختفاء، أو بين النتائج والمصادقة عليها.
المصير المماثل قادم ولكن ليس مباشرة، وليس بصورة آلية، ولا حتى بنفس الطريقة، وليس بنفس السرعة طبعاً.
سأشرح وأحاول توضيح الأسباب، على أن أشرح وأُحاول توضيح أن مصير نتنياهو لن يختلف عن مصير ترامب، بالرغم من كل ما تقدم، وأن الفرق في ظروف ومسببات الاختفاء لا ولن يمنع الاختفاء المحتوم.
صحيح أن علاقات نتنياهو مع الحزب الديمقراطي تضعضعت في السنوات الأربع الأخيرة من حكم ترامب، وصحيح أن هذه العلاقات توترت في السنة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق باراك أوباما، وصحيح أن تدخل نتنياهو الفظ والفج في الانتخابات الأميركية قد تمخض عنه استياء كبير في صفوف الحزب الديمقراطي الأميركي، ولكن الصحيح، أيضاً، أن العلاقات التاريخية الراسخة بين الحزب الديمقراطي الأميركي وبين إسرائيل كجزء عضوي من علاقات الدولة الأميركية بها لا يمكن أن تذهب إلى ما هو أبعد من «الاستياء»، وهي لن تصل بأي حال من الأحوال إلى خصومة من شأنها التقليل من شأن هذه العلاقة التاريخية القوية والراسخة.
وحتى لو أن الرئيس أوباما دعم بايدن بكل طاقته وأن الرجلين معاً يعرفان حق المعرفة كل ألاعيب نتنياهو وانتهازيته المفضوحة، وحتى لو أن الجناح اليساري والتقدمي في الحزب الديمقراطي قد بات أكثر قوة وتأثيراً في صفوف الحزب الديمقراطي، فإن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة هي أعلى شاناً من أي استياء أو حتى من أي خصومة.
وهذا هو السبب الأول الذي يجعل اختفاء ترامب ورحيله عن البيت الأبيض عاملاً مهماً في رحيل نتنياهو لاحقاً وبعد أن تتوفر الشروط التي لا بد منها وهو ما سنأتي عليه بعد قليل.
أما السبب الثاني الذي سيحتّم اختفاء نتنياهو في مرحلة لاحقة وليس مباشرة فهو عدم وجود بديل سياسي عن ائتلاف اليمين الحاكم في إسرائيل.
في الولايات المتحدة كان الحزب الديمقراطي وما زال يقدم برنامجاً بديلاً عن الحزب الجمهوري وسياساته في مفاصل رئيسة من السياسات ذات الأهمية المباشرة في التأثير على حياة الملايين من الأميركيين، في مجالات حيوية مثل الضرائب، والصحة والعمل والعنصرية والعدالة بين الأعراق والمكونات، وغيرها وغيرها، أما في إسرائيل فهذا البديل ليس قائماً برنامجياً، وليس قائماً حتى على مستوى الائتلاف السياسي الممكن أو المتوقع.
ولهذا فإنه من دون توفر هذا البديل برنامجياً وائتلافياً سيظل نتنياهو قادراً على المناورة بهذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك.
أما السبب الثالث الذي يُبقي نتنياهو في المشهد السياسي إلى حين، فهو أن الرئيس بايدن، وهو الرئيس المنتخب حتى الآن مثقل بأحمال ترامب الداخلية في ملفات ليس أقلها شأناً حالة الانقسام الحادة في المجتمع الأميركي، والمخاوف الحقيقية من تحول حالة الانقسام هذه إلى تهديدات وجودية على وحدة وتماسك المجتمع والدولة في الولايات المتحدة.
ولهذا فإن السياسة الخارجية لن تحظى إلا ببعض القرارات الإدارية السريعة بعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقيات المناخ، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، وترميمات سريعة للعلاقة مع أوروبا الغربية وحلف شمال الأطلسي، وإعادة تطبيع العلاقات مع كل من روسيا والصين، وهي كلها ستحتاج إلى وقت وجهد خاص لكي ترسي الولايات المتحدة استراتيجياتها حيال هذه الملفات، والشرق الأوسط لا يمثل الأولوية من بينها.
بهذا المعنى فإن لدى نتنياهو ما «يكفي» من الوقت للمناورة قبل أن تضيق عليه هذه الهوامش.
ولكن نتنياهو سيسقط كما سقط ترامب، وسيرحل وهو يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة، وربما بصورة أكثر مأساوية من خيبة وهزيمة ترامب، وذلك بالنظر إلى ملفاته الخاصة بالفساد، حتى وإن تأخر الأمر قليلاً.
العامل الأول في مصير نتنياهو هذا هو أن لا أحد في هذا العالم يمكن أن يتوافق معه حول برنامجه للضم أو إقامة إسرائيل الكبرى، أو التشارك معه في تصفية حقوق الشعب الفلسطيني من كل جوانبها، وفرض الحل الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني بدعم ومساندة أميركية، وبإدارة الظهر لكل ما تقوم عليه البشرية من أسس وقوانين وشرعيات في مجال العلاقات الدولية.
لقد فقد نتنياهو وائتلافه الحاكم الظهير والداعم والمساند والمشارك المتحمس في فرض برامجه وسياساته، كما فقد «موضوعياً»، أو هو في طريق أن يفقد الخاصرة العربية الرخوة التي راهن عليها، وبنى عليها أحلامه وأوهامه.
لن يتغير العرب لمجرد أن ترامب قد رحل وجاء بايدن، ولكنهم فقدوا هم، أيضاً، الظهير والحامي بلا شروط سوى التجرد التام من الكرامة، وهم «تيتموا» تماماً كما تيتم نتنياهو، ولم يعودوا مُجبرين على الخنوع التام ولا على الصمت المطبق.
وفي إسرائيل نفسها اهتزّ الوضع السياسي مع سقوط ترامب بأكثر ما كان مهتزاً، والأحزاب الدينية ستبدأ من الغد البحث عن ملاذ سياسي جديد، وسيتوقف غانتس عن البقاء في «جيبة» نتنياهو بأي ثمن، لأنه سيراهن على أن الإدارة الأميركية الجديدة، ربما لن تجد غيره من تراهن عليه ـ لمرحلة انتقالية فقط ـ بهدف تغيير الواقع السياسي في إسرائيل، بما يجعل الانتقال من مرحلة السلام مقابل السلام (أي صفقة القرن) والعودة إلى السلام مقابل الأرض أمراً ممكناً.
لا دور لنتنياهو في هذا الانتقال، أو لنقل لا يمكن أن يكون له الدور القيادي في هذا الشأن.
لقد تبين الآن أن من راهنوا على ترامب قد خسروا أكثر من نصف جولات السباق، والنصف الثاني من هذه الجولات لا يمكن أن ينتهي بأكثر من التعادل إذا أحسن كل المراهنين التصرف، وعادوا وانضبطوا في مسار جديد سيقطع مع المسار السابق بهدوء وتدرُّج، ومن دون صخب أو ضجيج.
وقد تبين، أيضاً، أن القيادة الفلسطينية قد تحلت بالكثير من الحكمة والصبر وكذلك القيادة الأردنية، وكل الذين حفظوا كرامتهم، ولم ترتعد أرجلهم، ولم تُغرهم المناورات أو ترهبهم التهديدات. لكن الأمور لن تقف عند هذا الواقع الماثل في المشهد السياسي.
ستضعنا القيادة الديمقراطية الجديدة في البيت الأبيض أمام تحديات جديدة لن نتمكن من التهرب منها لا بيسر ولا بسهولة.
إن أقصى ما يمكن أن تصل إليه القيادة الأميركية الجديدة هو ما جاء في خطة الرئيس كلينتون، وأن أعلى ما يمكن أن يقاتل معنا من العرب هو هذا السقف وليس أعلى منه من الناحية الجوهرية. وباختصار فإن القادم من الأيام لن يكون أسهل من الذي مضى.
كان ترامب أخرق وكان نتنياهو مهووساً، وكان بعض العرب قد فقدوا رشدهم، وكان للصبر والصمود والحنكة ما يبررها وما يجعلها ممكنة وذات معنى وتأثير.
أما الآن فإن الأمر أصعب قبل أن نعيد ترتيب بيتنا، وقبل إعادة بناء مؤسساتنا، وقبل أن نرمم علاقاتنا العربية، وقبل أن تستقر العلاقات الدولية على وجهة راسخة أو صلبة.
أما إذا توحّدنا وبنينا ورممنا فسيصبح ممكناً الوصول إلى حل سياسي قاعدته الشرعية الدولية وجوهره دولة مستقلة مقيدة، وليست تابعة أو تحت الاحتلال والهيمنة، والأفضل ألا نعتبر ذلك شراً صافياً، وألا نعتبر هذا الحل هو الحل النهائي وهذا سيحتاج إلى المزيد من النقاش.