بقلم - عبد المجيد سويلم
كنّا فيما سبق نرتاد «مقهى رام الله»، عند الأخ العزيز أبو إلياس، مع أنني لم أكن من الرواد «التاريخيين» لهذا المقهى الخاص والجميل.
عندما سألتني ذات يوم صديقة عن سرّ ارتياد مقهى كهذا، حيث ضيق المكان، وكثرة دخان الأراجيل في حيّز طولي أشبه بالممر أجبتها: الأمر يتعلق أكثر بوجود الأصدقاء، ثم إن المقاهي تقاس بتراثها وليس بسعتها، وفي كثير من الأحيان يكون المكان بما هو عليه سرّا من أسرار جمالها.
حاولت جهدي شرح الفكرة دون جدوى، وعلّقت قائلة: يبدو أحياناً أن الجالسين قرب الباب إذا مدّوا أرجلهم ستخرج إلى الشارع. المهم أن أمراً ما حدث، دون أن يكون لبعضنا فيه لا ناقة ولا بعير، وأدى فيما أدى إليه إلى انتقال واسع من هؤلاء الرواد إلى مقهى «الانشراح» الشهير في البلدة القديمة.
شيء ما يشبه الانشقاق.
أغلب الظنّ أن الفنان الصديق بشار الحروب قد تزّعم هذا الانشقاق، أو كان من المحرّضين عليه بهمّة ونشاط، وأغلب الظنّ، أيضاً، أن تراكمات معينة قد أدّت إلى الاستجابة السريعة لهذا الانشقاق.
فقط حسن البطل ومجموعة صغيرة لم «تنضبط» لهذا الانشقاق، وبقيت على المزاوجة بين القديم والجديد!
ساعد في سرعة الانتقال أن المكان الجديد أتاح للرواد فرصة الجلوس في الخارج في أوقات الطقس الجميل، وتحول المقهى بسرعة قياسية ومباغتة إلى ظاهرة من زاوية كثافة الحضور وامتداد ساعات السهر، وخصوصاً بعد أن تحول شارع السهل إلى شارع الشواء.
وبسبب أن شتاء هذا العام كان قاسياً وقارساً بصورة خاصة، فقد نظّمنا «انشقاقاً» جزئياً جديداً إلى مقهى (جدودنا) هرباً من البرد ومن دخان الأراجيل. شارك في هذا الانشقاق الصديق أحمد نجم والشاعر محمد دقة والكاتب واثق طه وغيرهم بتنسيق من معتصم السلفيتي.
اكتشفنا أن المكان الجديد لم يحلّ لا مشكلة البرد ولا مشكلة الأراجيل، وقررنا العودة إلى «الانشراح» عند أول بادرة صيفية، خصوصاً أننا على علاقة ممتازة مع كل القائمين على المقهى، وتربطنا بهم علاقة ودٍ واحترام.
كان عليّ أن أشير إلى أننا قد حاولنا تنظيم انشقاق جزئي آخر من «الانشراح» إلى مقهى «الباشا» الذي لا يبعد عن الأخير أكثر من أربعين متراً، ولكننا عدنا إلى الانشراح مرغمين وخائبين بعد أن أصرّ يوسف عوايص على هذه العودة على طريقته الخاصة.
رغم كل هذه الهجرات والانشقاقات بقينا نحن كمجموعة صغيرة من بين مجموع الرواد الوافدين من مقهى رام الله إلى مقهى الانشراح نلتقي كل يوم جمعة في مقهى «رُكَب» العريق، واستمرّ هذا التقليد الجميل منتظماً وودوداً وتلقائياً.
حَرَمَنا الفيروس اللعين من «رُكَب» ومن كل مقاهينا، لكنّ لفقدان جلسة رُكَب وقعا خاصا.
في معظم الأحيان نُنظّم من خلال هذه الجلسات في «رُكَب» نقاشات، أعتبرها غنية وجادّة، سياسية، ثقافية أو اجتماعية، لا تخلو من بعض المشاحنات والمناكفات، ولكنها تظل ودودة، وغالباً ما كانت تنتهي إلى غداء جماعي مشترك لأشباه «العزباء» والبعض من المتزوجين الذين يتمردون ويفلتون من غداء الزوجات في يوم الجمعة.
لم يحدث أن انسدت شهيتي بسبب استمرار واستكمال نقاشات المقهى على طاولة الغداء، إذ ليس لدي استعداد لإفسادها من أجل «نقاش»، ولم يحدث أن توقف حسن البطل عن الإشادة بهذه الشهية في نظرة لا تخلو من الحسد أو الغيرة أحياناً، ولم يحدث أبداً أن توقف عن التأفف بسبب عدم قدرته على مجاراتي في الأكل.
في مقهى الانشراح عندما تكون الجلسة صباحية أحياناً نعود إلى النقاشات وننعم بالتعليقات القصيرة المختصرة من وضاح زقطان والتعليقات الساخرة من أحمد داود، والتدخلات الخاطفة لزعل أبو رقطي عندما يتمكن من اقتطاع فرص صغيرة بين رسالتين نصيتين من رسائله المتواصلة، دون أن أنسى محمد هواش. أما في المساء فينقسم «النشاط» إلى لعب الورق وإلى لعبة النرد والشطرنج أحياناً.
لعب الورق في مقهى الانشراح له طعم التسلية والفكاهة التي يصعب أن تجدها إلاّ في إطار مجموعة كهذه، وسيصعب عليك تخيّل المتعة من دون تعليقات محمد عدوي، وخصوصاً تلك الموجّهة إلى د. عبد الله أبو شرار.
أما لعبة النرد فهي حكاية في غاية التوثيق.
أبطال هذه اللعبة الشاعر أحمد يعقوب مع المهندس يوسف عوايص. عوايص يحتج بصورة دائمة على حظه العاثر، ولا يتورع أبداً عن الشتم والسباب حتى عندما يكون منتصراً، ما يحيّر المشاهدين أو المتفرجين من أمثالي. ناهيكم طبعاً عن التوجه بالشكوى لي شخصياً، مع أنني أصلاً لا أعرف هذه اللعبة.
تخبو احتجاجات يوسف عوايص، وكذلك أحمد يعقوب عندما يلعبون مع الموسيقار سعيد مراد، الذي يبدو لي أنه يجيدها أكثر منهم، رغم استحالة اعتراف أحمد يعقوب بذلك.
لعب المقهى دوراً مميزاً في إثراء الحياة الثقافية في بلدان كثيرة، وتحوّلت المقاهي في كثير من بلدان العالم إلى صالونات ومنتديات سياسية وثقافية.
في أوروبا لا تخلو مدينة من مقهى خاص للنخب الأدبية والسياسية والثقافية والفنية، في لندن وباريس وبرلين وروما، وفي معظم العواصم تجد دائماً هذا النوع من المقاهي، حتى أن بعض المقاهي تحولت إلى مكان لقراءة الشعر والنصوص والقصص، بل وللعروض المسرحية في ما تسمى ظاهرة المقهى ـ المسرح.
في العواصم العربية، أيضاً، هناك بعض المقاهي المشهورة، وخصوصاً في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، كما توجد هذه المقاهي في المغرب وتونس وفي معظم المدن الكبيرة والعريقة.
مثل هذه المقاهي وجدت في المدن الفلسطينية الساحلية مثل يافا وحيفا وعكا وغزة، كما وجدت في القدس ونابلس والخليل من مدن الجبل الفلسطيني.
قبل نكسة عام 67 كانت مثل هذه المقاهي موجودة دون أن يصل طابعها إلى المقهى الثقافي في أوروبا، لكن الاحتلال وقمعه وبطشه بالنخب الفلسطينية وبالشعب كله منع هذه المقاهي من التحوّل إلى صالونات ومنتديات مكتملة. مدينة رام الله مازالت تفتقد لهذا المكان ومازالت النخب تتوزع بين مجموعة كبيرة من المقاهي.
وفشلت هذه النخب حتى الآن في إيجاد هذا المقهى رغم تحول المدينة إلى واحدة من أهم مدن العالم العربي من حيث دلالة الحرية والتنوير.
الـ «كورونا» حرمتنا من متعة المقهى، ومن رؤية الأصدقاء، ومن متعة المناقشات والحوارات واللعب، ومن «نهفات» يومية بتنا نشتاق لها ونتمنّى العودة إليها.
تصوّروا أن ما كان يبدو مملاً لبعضنا، أصبح في زمن «كورونا» هو أقصى ما نريد العودة إليه.
وربما أن هذه هي الجائحة الحقيقية.