غالبية المتابعين للشؤون الأميركية في هذه المرحلة، وخصوصاً الشأن الانتخابي وتعقيداته الدستورية والقانونية، إضافةً إلى أبعاده السياسية الملتهبة ما زالوا يعتقدون أن «لعبة» الرئيس ترامب بإنكار فوز بايدن، والإيحاء بقرب إعلانه (الرئيس ترامب) عن الفوز هي مجرد حالة من الانفكاك عن الواقع، وأنها لن تلبث أن تتلاشى وتزول مع «تجاهل» القضاء لكل أو معظم الادعاءات حول «سرقة» الانتخابات، وحول «التزوير» على نطاق واسع، وحول عشرات «المخالفات» التي تتشابه إلى حدٍّ كبير بالمخالفات المعتادة في كل انتخابات في العالم، بل وتتشابه في بعض أوجهها بالمخالفات الشرق أوسطية أو العالم ثالثية.
إلى هنا فإن غالبية المتابعين ربما يكونون على حق، وربما أن لعبة ترامب ليست، ولا يمكن أن يكون لها من الأبعاد الخطرة ما يتجاوز «العناد» أو التنغيص على الحزب الديمقراطي وعلى شخصية الرئيس المنتخب جو بايدن تحديداً.
لكن أن ينبري وزير الخارجية ليتحدث عن قرب تجديد الولاية الثانية للرئيس ترامب، وأن لا يتأخر وزير العدل عن الانخراط في نفس هذا السياق، ثم أن يتناغم زعيم الأكثرية الجمهورية مع هذه الأطروحات، فالأمر عند هذا الحد لم يعد مجرد حالة نفسية، ولا رعونة كانت معهودة في مناسبات أخرى، ولا يتعلق الأمر، ولا يمكن أن يتعلق بمشاعر لها علاقة بمرارة الهزيمة، أو بطعم خيبة الأمل والشعور بالخذلان، أو الإحساس بقرب انتهاء الأحلام والتمنيات.
الأمر عندما يصل إلى هذا الحد هو أقرب إلى خطة متكاملة، أو إلى مخطط مدروس بعناية واجهته «قانونية» وجوهر الهدف منه الإعاقة لتسليم السلطة، والمماطلة والتسويف، وترك القضاء في حالة بحيث لا يتمكن من خلالها حسم المسألة بصورة قاطعة، وهو ما سيؤدي إلى اللجوء للمؤسسة التشريعية، ومحاولة إجبار الولايات المتحدة على «العيش» برئيس «مؤقت» كحل انتقالي قابل للتمديد، أو ربما «تحريك الشارع» الترامبي لتحويل المرحلة الانتقالية إلى حالة لا «يمكن» قانونياً الخروج منها من دون أحداث من الفوضى والارباك التي تبدأ بتشكيل تهديدات كبيرة وفي قضايا من شأنها أن «ترغم» المجتمع والدولة بالعمل المتسارع لتفاديها بأي ثمن.
وهذا المخطط هو مجرد الخطة الأولية، أو المرحلة الأولى منه، أما باقي المخطط فيمكن أن يتطور إلى التمرد الكلي على كل النتائج التي أفرزتها الانتخابات، واستعادة كامل النتائج الكلية أو الجزئية لبعض الولايات مثل ميتشيغان، وبنسلفانيا، لكي يتم الادعاء بأن الرئيس الفائز هو الرئيس ترامب، وتكون البلاد قد دخلت في هذه الحالة النفق الأسود والمظلم والمجهول.
أن ينجح الرئيس ترامب أو لا ينجح فهذه مسألة مختلفة، لأن الموضوع هنا ليس النجاح، وإنما إحداث البلبلة، وإشاعة الفوضى، والتهديد بالأخطار وإرباك البلاد والعباد.
ليس سهلاً أبداً أن يتمكن فريق ترامب من وضع الولايات المتحدة على باب هذا النفق، وليس متوقعاً ولا مفترضاً أن ينحسر القضاء إلى تلك الساحة التي يحاول ترامب وفريقه جرّه إليها، ولكن ليس سهلاً أيضاً أن تذهب الولايات المتحدة إلى انتقال سلمي وسلس للسلطة في ظل وجود هكذا مخططات، في وجود هكذا فريق، وفي ظل وجود هكذا تفكير جهنمي على أعلى درجات المقامرة والابتزاز، ووضع حياة الناس وأرزاقهم تحت حالةٍ من فرض «الأمر الواقع» الجديد، والاختيار بين الواقع الجديد وبين تدمير وبعثرة الواقع الذي يُفترض أنه نتج عن الانتخابات.
إذا عُدنا إلى عدة شهور خلت نلاحظ أن «نواة» هذا التفكير الترامبي كانت موجودة وحاضرة، وكان ترامب يلمح إليها في بعض «زلّات» لسانه التي ربما لم تكن أصلاً هي مجرد زلّات.
لكن ترامب تيقّن أنه سيخسر الانتخابات، وتأكد بالملموس أن ردم الهوة لم يعد ممكناً (وقد كتبنا عن ذلك)، وأن لا حل سوى التشكيك بالتزوير، وأن لا طريق لأن تأخذ مسألة التزوير طريقها إلى الشارع بدون الأصوات البريدية، وذلك لأن الحزب الجمهوري وأنصار ترامب لم يكونوا مهتمين بالتباعد الاجتماعي، ولا بلبس الكمّامة، ولا بخطر التجمعات الهائلة، وهو الأمر الذي أكد لترامب وفريقه أن هذه الأصوات بالذات هي التي ستحسم الانتخابات لصالح بايدن.
وبما أن الأغلبية قد صوتت بواسطة البريد، فقد كان مؤكداً أن الخسارة أصبحت محتومة حتى لو حصل ترامب على غالبية أصوات يوم الثلاثاء العظيم.
يعتقد بعض المراقبين أن فريق ترامب من خلال التحريض على طريقة التصويت بالبريد قد أخطأ خطأً فادحاً، لأنه بهذا الأسلوب حفّز قاعدة وأنصار الحزب الديمقراطي على التصويت المكثف بواسطة البريد وقطع على ترامب أي إمكانية مباشرة على تجاهل هذا الكم الهائل من الأصوات، لكن الحقيقة أن ترامب لم يكن أمامه سوى التشكيك بهذه الأصوات، لأن الفرز بين جمهور ترامب وجمهور بايدن كان قد تم بصورة موضوعية من خلال اختلاف النظرة للجائحة وخطر الفيروس.
لاحظوا كيف أن ترامب حاول إعلان النتائج بصورة مبكرة جداً، وحاول بكل صلافته أن يعلن نجاحه وانتهاء الانتخابات قبل ظهور أقل من نصف أو حتى ثلث النتائج.
والذي أراه أن الحزب الديمقراطي كان على معرفة تامة ومسبقة بمخطط الرئيس ترامب، وبكل السبل والوسائل التي كان يفكر بها ويعمل عليها.
فقد لاحظنا أن فريقاً ضخماً من المحامين كانوا على أُهبة الاستعداد، وكانت أطروحتهم الرئيسية في هذه الانتخابات: الانتظار حتى اكتمال عد الاصوات، وعدم جواز الإعلان عن الفوز بالانتخابات قبل اكتمال عد الأصوات التي تؤهل أيّاً من المرشحين الوصول إلى العدد المطلوب من المجمع الانتخابي.
وقد تجاهل بايدن كل الادعاءات الترامبية وبدأ «باستقبال» التهاني، وهو تكتيك مقصود تماماً أراد منه الحزب الديمقراطي والرئيس المنتخب أن يصعّب «المهمة» على فريق ترامب، وأن يشتت تكتيكاته ويبعثر مخططاته.
اللافت بصورة خاصة، ومما يثير الكثير من علامات الاستفهام أن الاتحاد الأوروبي سارع وبصورة رسمية إلى الاستجابة لتكتيك بايدن، وبما يصل إلى صورة هي أقرب إلى الاستعجال المقصود بفرض واقع سياسي جديد، بما يوحي أن مخاوف الاتحاد الأوروبي على استقرار الولايات المتحدة هي مخاوف حقيقية، وقد كانت وزيرة الدفاع الألماني قد أشارت إلى هذه المخاوف، وفي وصفها للأوضاع في الولايات المتحدة بالمتفجّرة.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو الموقف الروسي والصيني والتركي المتأخّر والإسرائيلي الخجول.
روسيا والصين برّرتا موقفهما بانتظار النتائج الرسمية، وهي حجة مقبولة من الزاوية الشكلية، ولكنها ليست مقنعة من الناحية السياسية، وكل دولة من جانبها الخاص بها.
الصين ليس لديها مشكلة على ما يبدو أن تؤدي الأزمة الداخلية في الولايات المتحدة إلى مزيد من التضعضع السياسي والاقتصادي حتى تكون في موقع افضل عند إعادة الأمور والعلاقات بين البلدين وإلى التفاوض حول قضايا الخلاف بينهما.
أما روسيا فهي لم تخفِ «تعاطفها» مع ترامب لأسباب يطول شرحها، ولكنها لا تختلف عن خلفية الموقف الصيني، أما تركيا وإسرائيل فهما كانتا وما زالتا تمنيّان النفس بتعطيل فوز بايدن، بل والتأمّل حتى بعودة الترامبية.
دول الخليج هنّأت على مضض، على طريقة «مجبر أخاك لا بطل»، ولكن الإقرار بالواقع الجديد أصبح ملحّاً خوفاً من ترصيد النقاط السوداء على هذه البلدان. على كل حال التهاني الأوروبية على ما يبدو لعبت دوراً حاسماً في هذا الاتجاه، وقد تكون إدارة ترامب قد فهمت المعنى والمغزى منذ اللحظة الأولى.
في إسرائيل هناك عاصفة تحت السطح، وهناك ما يكفي من المؤشرات أن كل من يتأخّر سيدفع ثمناً أكبر مع مرور الوقت، ومع مسار تطور الأزمة الداخلية التي يُعِدُّ لها ترامب وفريقه.
الوضع ما زال خطيراً والأمور ما زالت أبعد من أن تكون عابرة ومعركة تسليم السلطة ليست كأيّ أزمة، ولا هي قابلة للتجاوز حتى لو حسم القضاء الأمر، لأن فريق ترامب لا يعتبر الحاجز القانوني سوى مجرد مرحلة إلهاء ليس إلاّ، أما المخطط فأبعد من ذلك بكثير.