دعونا، مؤقتاً، من استطلاعات الرأي فيما لو أُجريت الانتخابات، اليوم، في إسرائيل، لأن هذه الاستطلاعات ستتغير بتسارع كبير، وخصوصاً في الشهر الثالث من العام الجديد.
لماذا لا تصلح هذه الاستطلاعات لقراءة الخارطة السياسية والحزبية ولا لاستقراء الوضع الإسرائيلي؟
ببساطة، لأن «الليكود» مع التوجه إلى الانتخابات الرابعة، بات محشورا في زاوية الارتهان لبقاء نتنياهو على رأسه، وبات مجبراً على خوض معركة الحصانة، مع أن هذه الأخيرة أصبحت مراهنة خاسرة وفاشلة ولا حظ حقيقيا لها.
أي أن «الليكود» المحكوم بشروط المصالح الخاصة بنتنياهو مطالب بأن يحمل اربع أو خمس بطيخات بيد واحدة.
بطيخة بقاء نتنياهو، وبطيخة محاكماته وكيفية الإفلات منها، وبطيخة «كورونا» والوضع الاقتصادي، باعتبار أن حكومة «تصريف الأعمال» ما زالت بقيادته، وبطيخة «ساعر» الذي لا يستطيع «الليكود» ولا نتنياهو وصفه أو وصمه «باليسار» ثم بطيخة المجتمع الدولي والساكن الجديد للبيت الأبيض.
وببساطة، أيضاً لأن حزب «ازرق ـ ابيض» بدأ بالتشظي مبكراً، وقد أُجبر غانتس على الانتخابات عمليا لأن بعض الموالين له أو المحسوبين على حزبه هم من ساهموا بصورة مباشرة في إسقاط قانون التصويت على الميزانية ما يعني أن هذا الحزب قد فشل فشلا ذريعا في أن يشكل الرأس الموازي، أو البديل السياسي، وأنه ومنذ اليوم الأول لدخوله في التحالف مع «الليكود» ونتنياهو، لم يكن سوى ذيل، فكيف لذيل سياسي لحزب مأزوم وهو «الليكود»، المقدم على المزيد من التسرب والاستنزاف، ان يظل متماسكا وموحدا، أو ان يعود إلى دائرة الاستقطاب السياسي؟
وكيف سيقنع نتنياهو قاعدة «الليكود» بالحفاظ على الوحدة والتماسك، طالما ان الاقتصاد الإسرائيلي في تراجع مستمر، وطالما أن الإغلاق الثالث الكبير على الأبواب، وطالما، أيضاً، ان «إنجازات» نتنياهو أصبحت هي «تطبيعات» فبركتها إدارة ترامب على عجل لأسباب أميركية أولاً وعاشراً، وطالما ان مجرد شراء اللقاح صار «الإنجاز» الرئيسي لنتنياهو؟
فما هو هذا الإنجاز العظيم..؟!
وكيف سيقنع غانتس من تبقى معه من حزبه بالمحافظة على وحدة وتماسك هذا الحزب طالما انه شق حزبه الأول، وضحى به، ودخل ائتلافاً مع «الليكود»، ومع نتنياهو انتهى إلى فشل معلن؟ وعليه فإن تماسك ووحدة «الليكود» وبقاء حزب غانتس او بقاياه هما في مهبّ الريح.
الأحزاب الدينية في هذا المشهد فقدت كل قدرتها على الابتزاز وعلى المناورة والتفاوض من موقع تحقيق المكاسب الخاصة بها، والتي هي مكاسب فئوية لا علاقة لها بالشأن السياسي العام في إسرائيل.
والسبب واضح وهو ان مركز التفاوض القادم لتشكيل أي حكومة لم يعد «الليكود» بصورة مؤكدة، وحتى «ساعر» فإنه ربما سيكون بحاجة الى التحالف معهم إذا كانت قوته الانتخابية (عدد المقاعد) لا تقل عن خمسة وعشرين مقعداً، وإذا ما ضم إليه في هذا التحالف من سيتبقى من «الليكود» دون نتنياهو او بوجوده في مثل حكومة كهذه وليس على رأسها.
في هذه الحالة، فقط يمكن ان تشارك الأحزاب الدينية مع «ساعر» في حكومة يمين، ولكن بشروطه هو وليس بشروطها، لأن «ساعر» لديه إمكانيات احتياطية كبيرة دونهم، ودون دعمهم أيضاً، خاصة وان ليبرمان مستعد للدخول في حكومة كهذه دون وجودهم، كما ان نفتالي بينيت نفسه يمكن ان يدخل إليها.
كما لا يستبعد أبداً أن تتم المشاركة او الدعم الخارجي لحكومة كهذه من قبل بقايا «ازرق ـ ابيض»، بل ومن كل يسار الوسط إذا اقتضى الأمر.
ولهذا فإن الأحزاب الدينية قد تهمش دورها ومنذ الآن، ولا حاجة ان تنتظر نتائج الانتخابات الرابعة لمعرفة تقلص دور ومكانة الأحزاب الدينية في الخارطة السياسية والحزبية القادمة.
ولكن المشهد الحزبي السياسي في إسرائيل أكثر تشابكاً وتعقيداً من هذا كله.
والسبب هو أن معركة ساعر ضد نتنياهو ليست سهلة، ليس فقط بسبب خبرة نتنياهو، وقدراته، وإنما لأن ساعر نفسه سيحتاج للتحالف مع «الليكود» او من سيتماسك في إطاره إذا ما أراد الاستغناء عن دعم الأحزاب الدينية، وعن دعم يسار الوسط.
أي أنه في كل الأحوال، وحتى لو وفّر لنفسه ما بين 23 و28 مقعداً (وهو الحد الأقصى الذي يمكن أن يتحصل عليه، كما أرى) وتحالف مع ليبرمان وبينيت، وكلاهما لن يصلا الى اكثر من عشرين مقعداً ـ كما أرى ـ فإنه سيحتاج الى التحالف مع «الليكود» لبناء جبهة يمينية «مستقرة» للحكم في إسرائيل، لكن هذه الجبهة واهمة وموهومة.
في هذه الحالة ستتكرس ربما سطوة اليمين لفترة ليست طويلة قادمة، وفي هذه الحالة ستصبح مشاركة الأحزاب الدينية «إشراكاً» سياسياً ليس أكثر، وستتحول «المعارضة» الى الوسط أو يسار الوسط، والى ما يسمى اليسار، إضافة الى القائمة المشتركة ودون الحركة الإسلامية الجنوبية غالباً. لكن من يضمن أن نتنياهو سيرحل بهدوء او سيحني رأسه بسهولة، او حتى ان يقبل «الليكود» النزول عن الشجرة الى درجة التنازل عن دور القيادة والريادة؟
وحتى لو تم كل ذلك، فهل سيرضى ساكن البيت الأبيض عن تشكيلة او توليفة كهذه، وهل ستلقى هذه التوليفة أي دعم جدي من الاتحاد الأوروبي ومن المجتمع الدولي؟!
هكذا توليفة سيكون مرحبا بها فقط من قبل المستوطنين في الداخل، وبعض الجيوب اليمينية في بعض البلدان، ومن المهرولين المندلقين العرب فقط لا غير، دولتان فقط لا أكثر. هذه التوليفة لن تحل أزمة، ولن تقوى على الصمود وستنهار عند أي منعطف دولي أو إقليمي، ناهيكم عن ان المعارضة لها بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي لن تكون عابرة أو ضعيفة، لكن كل شيء سيعتمد على إمكانية توفر مثل هذه المعارضة القوية المثابرة، وإذا ما تشجعت هكذا معارضة لتقديم برنامج سياسي بديل وحقيقي، وهو أمر ما زال مستبعداً مع الأسف، وهذا هو بالضبط ما يجعل اليمين في إسرائيل ممسكاً بزمام الأمور فيها حتى اللحظة، وفي المدى المرئي على الأقل.
هل توجد فرصة قادمة بعد الانتخابات وظهور نتائجها لحكومة وسط ويسار في إسرائيل؟
جوابي: نعم، يوجد بالرغم من كل شيء.
سيأتي يوم، وهو قريب تكون فيه إسرائيل مضطرة لتوليف وضعها الداخلي سياسيا مع معطيات ووقائع دعمها الخارجي والإقليمي، وحينها لن تصبح حكومة وسط ويسار مسألة لا مستغربة ولا مستهجنة بل وممكنة ومرجّحة.
المحيّر فعلاً كيف أن الحركة الإسلامية الجنوبية لم تقرأ ولم تستقرئ ضعف وهشاشة وضع «الليكود»، وخصوصاً دور ومكانة نتنياهو في الحياة السياسية الراهنة والمقبلة، وكيف أنها (الحركة الإسلامية الجنوبية) ارتضت لنفسها المراهنة او الارتهان ـ الله أعلم ـ لليكود ولنتنياهو قبل صافرة الحكم بعدة دقائق فقط؟!
على كل حال الاعتراف بالخطأ أو بالذنب هو أقصر الطريق للتعويض والتكفير عنه. هذا إذا توفرت النية لاعتراف كهذا أو مراجعة، ولنا عودة.