بقلم : عبد المجيد سويلم
قلنا في المقال السابق: إن أمور الحالة والساحة الوطنية لن تستقيم قبل تحديد فهم عميق لدور السلطة الوطنية بصورة ملموسة ومحددة، وقبل تحديد مكانتها في النظام السياسي الفلسطيني ووظيفتها الأصلية والمستجدّة بعد قرار «التحلّل» من الاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي.وقلنا كذلك: إن هذه السلطة لن تتمكن من أن تلعب دورها والقيام بوظيفتها ومهامها وصلاحياتها بحيث تلقى المساندة والدعم الفصائلي والجماهيري دون أن تفك ارتباطها النفعي والمبهم والتوظيفي بمنظمة التحرير الفلسطينية.
ليس المقصود هو فصل هذه العلاقة بالكامل، لأن مثل هذا الأمر ليس متاحاً من زاوية نمط العلاقة القائمة بصورة موضوعية، وإنما المقصود هنا هو فكفكة عناصر وعوامل الاشتباك والتشابك والتداخل، وفصل الصلاحيات والمهام وفق تراتبية الموقع والدور في الحالة الوطنية من الزوايا التاريخية والسياسية، ووفق علاقة كل منهما بالأهداف والحقوق الوطنية، وبالبرنامج الوطني، ووفق الموقع القانوني في النظام السياسي، ووفق ما تمثله كل مؤسسة في إطار القانون الدولي.
ولكي تتضح خارطة وتضاريس هذا التشابك والاشتباك لا بدّ من توضيح مكانة المنظمة وموقعها ودورها بالتالي.عاش الشعب الفلسطيني مرحلة من التيه السياسي تخللتها محاولات وإرهاصات أولية للخروج من هذا التيه طوال الفترة الممتدة بين النكبة ونشأة منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة حركة «فتح»، ثم انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والفصائل الأخرى. وقد شخص المبدع الكبير غسان كنفاني هذه المرحلة في روايته العبقرية (رجال في الشمس) وأرّخ لها بأسلوب روائي فذّ، ورصد كل إرهاصاتها أيضاً. وبهذه المناسبة، فأنا أعتبر غسان كنفاني المؤرخ الأدبي ليس لمرحلة التيه، وإنما للمراحل اللاحقة من خلال رواية «ما تبقّى لكم»، و»عائد إلى حيفا»، و»أم سعد» و»برقوق نيسان»، تماماً كما كان قد رصد تلك المرحلة في قصصه القصيرة وفي مسرحياته وباقي أعماله. [أقوم في هذه الأيام بإعداد بحث عن الدور التاريخي للثورة المعاصرة في أعماله الأدبية].
بعد النكبة ألحق الشعب الفلسطيني سياسياً وفرضت عليه الوصاية العربية في اتجاهين رئيسيين:الاتجاه الأول، هو اتجاه الوصاية والإلحاق الرجعية. تجلّى ذلك بإلحاق الضفة الغربية بالأردن، وإلحاق قطاع غزة بالإدارة المصرية، وتهميش واضمحلال الأجسام التمثيلية الفلسطينية لاحقاً مثل الهيئة العربية العليا وحكومة عموم فلسطين.
أما الاتجاه الثاني، فقد تمثل في اندماج وانصهار معظم النخب والكوادر السياسية الفلسطينية في الأحزاب القومية العربية مثل، حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكذلك التحاق آلاف اليساريين والشيوعيين الفلسطينيين إما بالحزب الشيوعي الإسرائيلي (على مستوى الداخل)، وإما بالحزب الشيوعي الأردني في الضفة وشرق الأردن، وبقي الشيوعيون في القطاع على علاقة خاصة بالحركة الشيوعية الأردنية والمصرية دون الانصهار فيهما.
النظام العربي طوال فترة النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وإلى منتصف الستينيات منه أدرك، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر، أن أولويته تتمثل في بناء الدولة الوطنية، وأن ثمة تعارضاً بين مشروع بناء الدولة ومشروع «تحرير» فلسطين.
أدى هذا الواقع وأملى على النظام الناصري والذي كان يتزعم الحالة الوطنية والقومية «ضرورة» إبقاء الحالة الوطنية الفلسطينية، والتي كانت في مرحلة التحضر والتململ في بناء ذات وطنية خاصة تحت عباءة هذا النظام من جهة، وإعطاء العامل الفلسطيني قدراً معيناً من العمل الفلسطيني المستقل نسبياً، وفي هذا الإطار بالذات تم إنشاء المنظمة.
باختصار، كان مشروع إنشاء المنظمة بالنسبة للنظام العربي هو وسيلته للسيطرة على العامل الذاتي الخاص تحت رقابة وسيطرة هذا النظام، كما كانت وسيلته أيضاً للتنصل المراوغ من مسألة التحرير.
لكن مع نهاية الخمسينيات ومنتصف الستينيات بادرت «فتح» لإنشاء تنظيمها الخاص بأيديولوجية وطنية تحررية عامة، اتسعت للتيارات الوطنية والقومية واليسارية والدينية، وبدأت التحضير لانطلاق الكفاح المسلح.
لم تنتظر «فتح» ولم تعِرْ اهتماماً خاصاً لإستراتيجيات النظام العربي، وأعلنت عن انطلاقتها في الأول من كانون الثاني في العام 1965.
إلى حينه كانت المنظمة قد أنشئت بقرار من المجالس الوطنية، بدءاً من أيار 1964 جيش التحرير الفلسطيني والصندوق القومي، وتولى الزعيم أحمد الشقيري مهمة الدعوة إلى «التحرير» في أوساط الفلسطينيين في كل مكان، باسم الميثاق القومي للمنظمة.
لم تكن المنظمة حتى ذلك الوقت سوى هياكل وطنية تعكس تطلعات الشعب الفلسطيني دون أن تحصل على شرعية وحدانية تمثيله بعد.
مع هزيمة حزيران، وبعد معركة الكرامة تحديداً، استولت «فتح» على المنظمة ومعها بقية الفصائل التي توالى انطلاقها بعد الهزيمة مباشرة، وأصبحت «فتح» قائدة وزعيمة للمنظمة بالشرعية الوطنية والثورية، وتشكلت هيئاتها ودوائرها من معظم الفصائل، وتحولت إلى ممثل سياسي للشعب الفلسطيني دون ترسيم أو اعتراف رسمي مع أنها أصبحت ممثلاً بحكم ما يعرف بالأمر الواقع.
بعد العام 1974 توالى الاعتراف الدولي بالمنظمة، خصوصاً بعد إقرار برنامج النقاط العشر، وقد تولى الاتحاد السوفياتي في حينه دعم هذا المسار وكرس كل الإمكانيات المتاحة حتى أصبحت المنظمة الممثل الشرعي والوحيد بعد قمة الرباط.
المنظمة بهذا المعنى هي إعجاز الشعب الفلسطيني. إذ لم يمر في التاريخ المعاصر أن استطاعت حركة تحرر وطني أن تجمع شعباً مشتتاً، ومن دون أرض، ومن دون هوية مبلورة، وتحت الإلحاق والتبعية والوصاية، ويواجه عدواً جباراً وقوياً له من الداعمين والمساندين في هذا العالم ما لم يتوفر مطلقاً لأي كيان في العالم.
ولم تشهد أي حركة تحرر وطني في التاريخ المعاصر للبشرية هذا الدعم الوطني الشامل والقومي الشامل والدولي الكاسح كما شهدت منظمة التحرير الفلسطينية، وتحولت إلى هوية وكيان وجبهة متحدة، وإلى المجسد للأهداف والممثل للحقوق، وإلى القائد لشعب يعيش في وطنه تحت الاحتلال والتهميش، وفي البلدان المحيطة من دون هوية وحقوق، وفي العالم كله من دون اسم ولا عنوان.
وخاضت المنظمة معارك الدفاع عن الثورة والأهداف والحقوق في كل الجهات وعلى كل المستويات، بدءاً من خطوط النار، إلى العمل المسلح في الداخل، وفي كل المنابر والمنصات الدولية وانتزعت شرعيتها بجدارة، واستطاعت أن تثبت الأهداف والحقوق، وتمكنت في نهاية المطاف من نقل المجابهة إلى الأرض المحتلة وعادت إلى أرض الوطن أملاً في الحصول على الاستقلال الوطني بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو.
لم تتمكن من إنجاز مشروع الدولة حتى الآن، وفشلت أو أُفشلت في تحويل السلطة إلى دولة مستقلة، ولكنها نجحت أو هي على أبواب النجاح في نقل مشروع السلطة إلى مشروع دولة تحت الاحتلال معترف بها من قبل القانون الدولي والمجتمع الدولي، وهي بالتالي الجهة الوحيدة القادرة والمؤهلة سياسياً وقانونياً ومن وجهة نظر القانون الدولي والشرعية الدولية على الحفاظ على الأهداف والحقوق الوطنية كما حددتها قرارات المجالس الوطنية، خصوصاً بعد المؤتمر التوحيدي في الجزائر.
أدى مسار أوسلو إلى إضعاف دور المنظمة ومكانتها، وتحولت السلطة الوطنية إلى واجهة للعمل الوطني بدلاً منها، وأصبح دور المنظمة في الواقع تابعاً للمؤسسة التي أنشأتها المنظمة بقرار من مجلسها المركزي، ولم تعد هي القائد الفعلي للمشروع الوطني إلاّ من حيث الشكل والمظهر.
هنا وقعنا في الفخّ الأكبر.
فقد فشل وأُفشل أوسلو، ولم تعد السلطة حتى وإن كانت جزءاً أصيلاً من الكيانية الوطنية موضع رهان الشعب الفلسطيني كله، أو في موقع القدرة على البقاء الأكيد بعد الهجوم الأميركي والصهيوني الكاسح لتجاوز حقوقه وأهدافه وتصفيتها. وبعد أن استطاع «الإسلام السياسي» الإمساك بالشعب الفلسطيني من اليد التي تؤلمه، أي وحدته ووحدة أراضيه وشعبه وقضيته الوطنية.
وحققت إسرائيل بوساطة الانقسام أكبر اختراق إستراتيجي للمشروع الوطني إلى درجة أن شمعون بيريس قال في معرض رده على سؤال بمناسبة الذكرى الستين لقيام دولة الاحتلال حول أهم القضايا التي يراها مؤثرة في مسار قيام وتطور ومستقبل هذه الدولة: «القضايا الكبرى والأحداث الكبرى التي مرّ بها كقائد وزعيم مخضرم هي: 1. قيام الدولة. 2. انتصار إسرائيل في حزيران. 3. الانقسام الفلسطيني».
لذلك كله فالأصل هو المنظمة والفرع هو السلطة. الأساسي والرئيسي هو المنظمة أما السلطة فهي التابع والثانوي.
التي تجسد وحدة الشعب والوطن والقضية هي المنظمة وليست السلطة، والتي تمثل الأهداف والحقوق هي المنظمة وليست السلطة. التي لها وحدها حق التمثيل وشرعية التمثيل هي المنظمة وليست السلطة، وكل صفة من صفات السلطة ليست تفريعاً عن المنظمة وتجسيداً لرؤيتها ومنظورها الوطني الشامل وليس لها أي قيمة بالمعنى السياسي.
منظمة التحرير جزء من القانون الدولي والسلطة هي كذلك باعتبارها يد المنظمة وفرعها وجزءاً لا يتجزأ منها.
ولهذا، أيضاً، فإن إعادة الاعتبار للمنظمة ليس مشروعاً فصائلياً حول الحصص (على أهميته)، وإنما هو إعادة اعتبار للأهداف والحقوق والمشروع الوطني.
كيف يمكن إعادة العلاقة إلى وضعها الصحي؟ وكيف يمكن إصلاح المنظمة؟ وكيف يمكن أن نُرسي العلاقة على أسس جديدة؟ فهذا هو موضوع المقال القادم.