بقلم - عبد المجيد سويلم
كما نعرف جميعاً فإن التكافل شكل وما زال إحدى القيم العالية في مجتمعنا.
والتكافل كقيمة اجتماعية لازمت المجتمع الفلسطيني على مدى محصور متصلة، كما لازمت مجتمعات عربية وإسلامية، وربما شرقية، أيضاً، بسبب عوامل الثقافة والدين وأنماط الإنتاج المتوارثة.
لكن الهجمة الاستعمارية على بلادنا في صورتها الصهيونية أعطت لهذه القيمة الاجتماعية الراقية الكثير من الأبعاد الخاصة، ومن السمات والمواصفات التي تحولت فيها هذه القيمة إلى واحد من أهم عناصر الصمود الوطني في مواجهة مشروع الاقتلاع والاحلال والتطهير العرقي الذي تميز به المشروع الصهيوني ضد شعبنا وأرضنا وهويتنا ووجودنا من أساسه.
من المؤكد أن غياب إدارة وطنية مركزية راسخة على مدى طويل ـ على الأقل منذ مرحلة تداعي الحكم العثماني ـ، وربما لفترات طويلة ومراحل معينة من كامل الفترة الزمنية الطويلة لهذا الحكم قد جعلت من التكافل الاجتماعي واحداً من أسلحة التماسك الوطني والوحدة المجتمعية.
تحول التكافل الاجتماعي إلى عنصر للصمود الوطني جراء الحرمان والتشريد والإفقار المنظم الذي تعرض له المجتمع الفلسطيني الناتج عن طبيعة المشروع الصهيوني، والذي يتفرد عن كل المشاريع الاستعمارية التي عرفتها البشرية المعاصرة.
مع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية تراجع موضوعياً دور التكافل الاجتماعي وأنيط بالسلطة الوطنية الكثير من مجالاته وأوجهه وبعض أبعاده وقنواته.
في الظروف التي نعيشها اليوم لم يعد التكافل الاجتماعي بتلك الدرجة من التأثير في وعلى الصمود المجتمعي، ولم يعد ممكناً الركون إليه في سد الثغرة الكبيرة القائمة، في ردم الهوة الاجتماعية التي ولّدها الاستقطاب الاقتصادي والاجتماعي الحاد الناتج عن ضعف البعد الاجتماعي في سياساتنا الاقتصادية على مدى أكثر من عقدين كاملين.
لم تثبت هذه السياسة ولم تتمكن ـ بما يجب وبما يكفي ـ من أن تؤمّن الحد المطلوب من مقومات الصمود المطلوب، والذي ترفع فاتورته بصورة متصاعدة ومستمرة مع ما تسببه سياسة السوق الحرّة من غلاء، ومن تدهورات في مستوى المعيشة ناتجة عن سطوة الاحتلال وإمعانه في تدمير الاقتصاد الوطني، أيضاً.
أقصد أن التكافل الاجتماعي مهما بلغ من درجات، ومهما ازدادت وتيرته في بعض المراحل والمواسم والمناسبات الصعبة، فإنه عاجز، وسيبقى عاجزاً عن سدّ الثغرة القائمة في جدار السياسات الاقتصادية الضعيفة الصلة بالبعد الاجتماعي، والتي هي ـ أي هذه الصلة ـ احتياج مجتمعي حيوي وصميمي في الوضع الفلسطيني الخاص.
وما يؤكد ليس فقط صحة هذا الاستنتاج، بل ودقته، أيضاً، شح الموارد المالية للسلطة الوطنية، وحالة الحصار الكبيرة والخانقة التي يتعرض لها المجتمع الفلسطيني، والسياسات الإسرائيلية الممنهجة للضغط الدائم على هذه الموارد ـ على شحها ـ والهجوم الأميركي الضاري ضد شعبنا وتوظيف كل إمكانيات الإدارة الأميركية على المستوى الإقليمي والدولي «للتكامل» مع السياسات الإسرائيلية بهدف إيصال الحالة الاقتصادية إلى حافة الاختناق، وإلى إيصال الحالة الاجتماعية إلى حافة التفكك «أملاً» في فرض الخنوع والإذعان، وفي التخلي عن الأهداف والحقوق الوطنية التي يجسدها مشروعنا الوطني.
وماذا يعني «الحل الاقتصادي» سوى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تدركان جيداً أهمية وحيوية هذا العامل في «الاستثمار» السياسي، وفي توظيف البعد الاقتصادي والاجتماعي في مشروع تصفية الحقوق الوطنية وضرب مقومات وركائز المشروع الوطني؟
أطلتُ قليلاً كي أحاول إبراز أهمية دور التكافل الاجتماعي في كل المراحل وفي كل الظروف ولكن ليس كبديل عن السياسات الاقتصادية الجديدة التي يجب أن نسارع الخطا لتبنيها قبل فوات الأوان، ولكي يتحول التكامل الاجتماعي إلى رديف وإلى رافد من روافد المنعة الوطنية والصمود الوطني.
قد لا يكون متاحاً الآن وعلى الفور إجراء تصويب كبير في هذه السياسات، وقد لا يكون التفكير بهذه المهمة الوطنية الكبيرة هو الأولوية المطلقة اليوم، لكن الذهاب والتوجه إلى أبعاد اجتماعية في سياساتنا الاقتصادية لم يعد مجرد خيار من بين مجموعة أخرى من الخيارات.
البعد الاجتماعي للسياسة الاقتصادية الفلسطينية بات الممر الإجباري، والمعبر الوحيد الذي يمكنه تأمين مقومات حقيقية، راسخة وقوية، ودعائم ثابتة وصلبة للصمود الوطني.
في معالجة الأزمة الراهنة مطلوب أن ندرك جميعاً أن تعطل قطاعات كبيرة وواسعة جداً بات يعني القلق على لقمة العيش، وبات يعني الخوف على المستقبل القريب قبل البعيد، وبات يعني، أيضاً، أن المراهنة على دور الحكومة وسياساتها ومبادراتها قد تحولت إلى ملاذ وطني شامل ما يزيد ويضاعف من المسؤولية الملقاة عليها.
وإذا كنا اليوم بحاجة إلى سياسات اقتصادية واجتماعية عاجلة، فإننا أحوج ما نكون إلى توفير وتوفر الإرادة والعزيمة والصراحة والحسم.
الذي أراه ممكناً وقابلاً للتطبيق هو أن تعكف الحكومة على مدى اجتماعين أو ثلاثة اجتماعات قادمة ـ وحبذا لو تكون هذه الاجتماعات استثنائية وعاجلة بحيث تقدم وزارة المالية وسلطة النقد وكل وزارة في مجال عملها واختصاصها تصوراً لكيفية توفير ما يلزم من مد يد العون لكافة الفئات المحتاجة للدعم وفق أولويات ملموسة.
ومهما كانت كمية الدعم متواضعة فإنها ستحمل في طياتها بعداً مهماً للتماسك الوطني، وللصمود الوطني.
ومن أجل توفير هذه المقومات فإن الحكومة مطالبة بوضع قواعد للعمل بها لمدة ثلاثة أشهر أو ستة أشهر حتى تتمكن الحكومة من دعم الفئات الأكثر تضرراً في الواقع القائم، ولكي يتم تخصيص دعم مالي وعيني منتظم لهذه الفئات.
لم يعد أمامنا الآن إلاّ هذا المخرج المؤقت والملحّ، لكي نعاود مراجعة سياساتنا الاقتصادية عند أول فرصة ممكنة. وحينها فإن كامل منظومة شبكة الحماية الاجتماعية في بلادنا تحتاج إلى إعادة تقييم، دون أن نغفل أو ننكر ما لدينا من مساحة أفقية في بعض هذه الشبكات والتي تحتاج إلى إصلاحات جادة في مستوى نوعية الخدمة في هذه الشبكات.