خروج "الإسلامية الجنوبية" من التحالف الوطني الديمقراطي الذي تمثله، وما زالت تمثله، "القائمة المشتركة" ليس خسارة حقيقية، هذا إذا لم نقل إن المسألة برمتها هي بمثابة المكسب الحقيقي، بعد أن جاهرت "الإسلامية الجنوبية" بمواقفها، والتي لم تتورع من خلالها عن إشهار استعدادها للتحالف مع اليمين الصهيوني، بما في ذلك اليمين العنصري المتطرف.
فحتى لو بقيت "القائمة المشتركة" على ما كانت عليه، فهي لم تكن لتحافظ على الزخم السابق، وان تطمح للمزيد، لأن الثقة ببقاء التحالف الذي مثّلته "المشتركة" بدأت ببعض الاهتزاز منذ أن قررت "الجنوبية" الاستغناء عن التحالف الوطني الديمقراطي والبحث عن "مكاسبها" الخاصة في أوكار اليمين الإسرائيلي.
الجماهير التي ستصوت للمشتركة في انتخابات آذار كتلة مركزية لن تتأثر كثيراً، وبإمكان القائمة المشتركة استعادة مساحات واسعة من الأرضية التي اهتزت في معمعان المحاولات الدؤوبة لثني "الجنوبية" عن قرار القبول بالعباءة الليكودية، والمراهنة على وعود نتنياهو التي لا يصدقها في إسرائيل، اليوم، اقرب المقربين إليه.
مفارقة تدعو إلى التأمّل!
منصور عباس ليس لديه مشكلة ثقة مع نتنياهو خلافا لرأي كل الأحزاب السياسية، وكل القيادات الإسرائيلية من داخل معسكر اليمين نفسه، وكل قيادات معسكر الوسط واليسار، وكل او معظم المؤسسات الثقافية والاجتماعية، والمؤسسات الصحافية والقضائية والغالبية الساحقة من قواعد الأحزاب الدينية، وقطاعات واسعة من حزب "الليكود" نفسه، سواء الذين خرجوا مع "ساعر" او حتى ممن تبقوا فيه.
مفارقة تبعث لنا برسالة مفادها ان الأمر يحتاج لفهمها الى ما هو أبعد، وما هو اخطر من مجرد خلاف في الرأي لتفسير هذه المفارقة.
لكن لماذا خروج "الجنوبية" هو بمثابة مكسب اكثر منه خسارة؟ وأيضاً، يتبع سؤال: هل خسارة ثلاثة أو أربعة مقاعد، والمراهنة على توقعات كانت تصل الى سبعة عشر مقعدا يمكن أن تكون مكسباً بأي حال؟
وسؤال إضافي: أليست قضية الدور والمكانة والتأثير على علاقة وترابط صميمي مع عدد المقاعد وحجم الكتلة في الخارطة السياسية والحزبية في إسرائيل؟
دعوني هنا أبدأ بالقول، ان الافتراق كان سيكون حتمياً على كل حال.
وإذا كان هذا الافتراق قد بدأ في واقع القائمة المشتركة في الأشهر الأخيرة تحت هذه الذريعة او تلك، او بحجة هنا وأخرى هناك، فإن هذا الافتراق، وهذا الخلاف كان سينشب عند كل مرحلة ومفصل سياسي او اجتماعي او ثقافي طالما ان "الجنوبية" بدأت مسلسل استحضار "الديني والشرعي" الى جدول أعمال القائمة المشتركة، وطالما ان هذا "الديني والشرعي" قد تحول الى موضوع من موضوعات التحالف الذي تمثله "المشتركة".
فإن يتم الافتراق اليوم والآن افضل ان يتم لاحقاً، خصوصاً إذا كان دور ومكانة "المشتركة" قد تحول فعلا خلال هذا "اللاحق" الى دور ومكانة اكبر من مجرد قوة وازنة، وإنما تحول الى قوة حاسمة ومحورية.
السبب ان الافتراق حينها، والضربة التي ستوجه الى "المشتركة" والى جماهير الداخل ستكون مضاعفة، وقد تقصم ظهر الحركة الوطنية وتلحق بها ضرراً بالغاً.
خروج "الجنوبية"، اليوم، هو انشقاق بطعم الفرز، بينما "غداً" فهو شق بطعم التصدع والهدم والانهيار.
وبين هذا وذاك الخسارة شكلية والمكسب جوهري. الجانب الآخر للمكسب هو ان التحالف الوطني الديمقراطي الذي تمثله "المشتركة" سيرتقي بصيغة التحالف هذه الى مرحلة أعلى، وسيكون ملزماً بمراجعات جادة لمسار ومسيرة هذا التحالف، حتى يكون قادراً في المستقبل على مواجهة كل التحديات، والتي يمثل تسرب "الجنوبية" منها مجرد واحد منها ليس إلاّ.
وأفضل للقائمة المشتركة ألف مرة أن يكون لديها احد عشر عضواً أو اثنا عشر عضواً من أن يكون لديها خمسة عشر أو ستة عشر عضواً، ثلاثة أو أربعة منهم على دكة الاحتياط لليمين الإسرائيلي.
إن من شأن مراجعات جادة يجريها التحالف الذي تمثله "المشتركة" أن يعيد ويستعيد علاقة الثقة بجماهير الداخل، وأن يعيد النظر بأشكال وصيغ وأُطر العمل الجماهيري، بما فيها مجالس البلديات ولجنة المتابعة العربية، وكل المؤسسات التمثيلية والأجسام المنبثقة عنها، وبحيث تصبح المشتركة واحدة من صيغ التحالف، واحد أشكاله التكاملية مع كافة الأشكال والأطر الأخرى، وفي إطار رؤى سياسية متكاملة لنضال جماهير الداخل في الحقلين الوطني والحقوقي على حد سواء.
وفي نهاية المطاف فإن عدد أعضاء ومقاعد ممثلي "المشتركة" في الكنيست على أهميته الكبيرة لا يشكل هدفاً بحد ذاته، بقدر ما ان الهدف الأكبر والأسمى والاهم هو تكاملية دور النضال البرلماني مع منظومة وطنية واسعة ومنسقة ومنظمة لكل أشكال العمل الوطني الجماهيري الفعال.
هذه القضية تحديداً ستقلب كل الموازين، وستعود على "المشتركة" بمكاسب اكبر بكثير من أي مكاسب أخرى.
قواعد "الجنوبية" سيكتشفون زيف التبرير الذي قدمته قيادة "الجنوبية" لهذه القواعد، وخصوصاً لجهة الترابط الصميمي العميق ما بين القضايا المطلبية وما بين القضايا الوطنية، عندما تتكامل هذه العملية في فكر وممارسة "المشتركة" وعندما تتم مأسسة هذا التكامل في الإطار الوطني الواسع والشامل على مستوى الداخل كله. حينها ستتكرس خسارة "الجنوبية" اكثر فأكثر، وستتصدع أكثر فأكثر، خصوصاً بعد أن بدأت تتوسل التحالف مع أزلام المنادين بالتحالف مع "الشيطان" في سبيل مصالحهم الخاصة.
من جانب آخر، فإن مراجعات من قبيل ما أشرنا إليه، ومن قبيل الكثير من الملاحظات في هذا الإطار، ستؤدي الى مراجعات مقابلة عند قطاعات اعتادت مقاطعة الانتخابات.
صحيح ان بعض المقاطعين لديهم آراء جادة حول أسباب المقاطعة بأبعاد أيديولوجية محددة، إلا ان جزءاً من الخلفية الفكرية للمقاطعين على ارتباط "ما" بين ما هو مطلبي وما هو وطني كذلك.
وحتى ومنذ الآن، فإن بعض المقاطعين سيفكرون مليا في هذه الأيام بالرد على انكشاف محاولات بيع المشروع الوطني التحرري لفلسطينيي الداخل في سوق المساومات السياسية لليمين الإسرائيلي، وبل لعدد كبير من أحزاب الوسط واليسار أيضاً.
لكل هذه المعاني والدلالات، فإن "المشتركة" ستكسب المعركة ولن تخسر إلا بعض القيود، وربما بعض المقاعد في حين أنها ستكسب جماهيرها، وصلابة وحدتها وتكريس دورها ومكانتها نحو طريقها الصعب والطويل، ولكنه الواعد أيضاً.