بقلم : عبد المجيد سويلم
عند الحديث عن الأخطار الحقيقية لفيروس «كورونا»، يحتاج الأمر إلى رأي الخبراء وذوي الاختصاص، وإلى رأي كبار العلماء الذين لهم الباع الطويل في البحث العلمي المخبري، وإلى الخبرة المتراكمة في تتبع دورات نشوء وتطور دورة حياة هذه الفيروسات.
كما يحتاج الأمر بكل تأكيد إلى نتائج مراقبة ما يُعرف بالطفرات التي تطرأ على مسار تطورها.
في مطلق الأحوال فإن العلماء وذوي الاختصاص وكبار الأطباء هم وحدهم من يستطيع الحديث عن ظهور هذه الفيروسات، وسرعة انتشارها، ووسائل هذا الانتشار، وغيرها من المسائل العلمية.
أما حالة الهلع والخوف والهياج وهستيريا القلق والتوتر، وتحول هذه الحالة إلى حالة عامة لا يشذّ عنها أي بلد أو قطاع أو منطقة ـ إلا ما ندر ـ فهي من صنع الإعلام ومن صنع دوائر بعينها في مراكز قرار هذه الدوائر.
لوحظ منذ البداية أن ظهور الفيروس في الصين قد أعطى لأصحاب هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة «فرصة» نادرة «لتسييس» هذا المرض بصورة ملتوية وغير مباشرة، وبصورة مباشرة أحياناً.
فقد عزت هذه الدوائر وبما يشبه «التأكيد» أسباب ظهور هذا المرض إلى الثقافة الصينية، وخصوصاً في مجال الأكل، وأمعنت هذه الدوائر في تصوير المأكولات الصينية وكأنها السبب الوحيد الذي يفسّر هذا الحدث الجلل.
العلم وحده هو الذي سيتكفل بالإجابة عن هذه «الفرضية» المتسرّعة، لكن وسائل الإعلام لم يرق لها انتظار موقف العلم، وتصرفت وكأنّ كل تكهن أصبح بمثابة مسلّمة ثابتة.
تُرى لو أن هذا المرض كان قد ظهر في الولايات المتحدة أو بريطانيا فهل كانت هذه الدوائر ستروّج لخطورته كما تم الترويج لهذه الأخطار بسبب ظهور الفيروس في الصين؟!
أحد الجوانب الهزلية لهذا التسييس هو ما تم ترويجه فيما يشبه الحملة المنظمة من أن ظهور هذا المرض في الصين قد جاء في ضوء «قمع» الصين للمسلمين هناك، أي كعقاب إلهي لها.
صحيح أن هذه الأطروحة قد انهارت بسرعة، وصحيح أن مروّجي هذه الأطروحة وكل مواقعهم تعرضت لنكسة على مستوى المصداقية، إلاّ أن «الكسب» الآني أو المؤقت، أو اللحظي في كثير من الأحيان يعتبر سابقة إعلامية، و»انتصارا» مزيّفا يبحثون عنه بأي وسيلة مهما كانت خسيسة.
بعد بدء تفشي المرض في إيران عادت وانتعشت نظرية الحرب البيولوجية، لكن سرعان ما أن انهارت هذه الأطروحة، أيضاً، بعد أن بدأ المرض بالانتقال إلى المراكز الرأسمالية الكبرى في الغرب.
فقد وصل انتشار المرض في إيطاليا إلى حدود الكارثة الوطنية، وهو يزداد انتشاراً في فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة نفسها.
وانهارت، أيضاً، نظرية أن إسرائيل تقف وراء نشر هذا الفيروس بعد أن وصلت الإصابات إلى إسرائيل، وبعد أن ثبتت استحالة منع انتشار هذا المرض في أي بلدٍ في العالم.
ثم عادت وانتشرت «نظريات» جديدة حول علاقة المرض بالتكنولوجيا الحديثة، وخصوصاً الموجات الكهرومغناطيسية للـ (G5) وبعض التطبيقات المرتبطة بهذه التقنية.
أما الحديث عن الوقاية والعلاج والتي تحولت إلى هوس جماعي، أيضاً، فقد أشعلت ومهّدت لانتشار أطروحات جديدة حول دور شركات الأدوية العالمية، بما في ذلك تفسير ظهور هذا المرض وكأنه حرب لبيع بعض أنواع الأدوية والمضادات والكمّامات وغيرها من الأطروحات الأقرب إلى الخيال والتحليق البعيد.
أما الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وبين صعود الاقتصاد الصيني من جهة أخرى فقد احتلّت ومنذ البداية مساحة واسعة ليس بين «أنصار» النشر المهووس عَبر وسائل التواصل الاجتماعي بما هبّ ودبّ، وبما يزيف ويضلل ويزوّر الواقع بكل صلافة وغباء، وإنما بين أوساط كثيرة من المحسوبين على المعرفة والثقافة والمتابعة الجدية للمعلومات والأطروحات الجادة.
فقد أعيد «التأكيد» على أن الصين نفسها هي من اخترع هذا المرض، وأنها ضحّت بعدة آلاف من شعبها حتى يتسنّى لها شراء الشركات الأجنبية في الصين، والتي تعمل في مجالات التكنولوجيا بأبخس الأسعار عند درجة معينة من تفشي المرض وعندما تنزل أسعار أسهم هذه الشركات إلى أدنى الحدود الممكنة!، باعتبار أن هذه الشركات مملوكة للغرب.
باختصار، تعامل «الإعلام» مع ظاهرة «كورونا» بالتهويل والابتعاد عن العلم، والترويج بأخطار صحية كاذبة، وبنظريات وأطروحات مؤامراتية، ودون إتاحة الفرصة أو المساحة للعقل والواقعية، ودون إعطاء العلم المساحة التي يحتاجها في مثل هذه الحالة الطارئة.
وباختصار، أيضاً، فإن إعادة التوعية بحقيقة المرض وأبعاده وآثاره هي الوقاية الأهم ضده، وضد كل ما يمكن أن ينتج عنه من آثار وخسائر وتفاعلات.
هذا هو المستوى الأول والأهم للوقاية. هذا أولاً، أما ثانياً، فإن علينا أن نعرف أن البلد الوحيد في هذا العالم الذي يستطيع أن يحاصر هذا المرض هو الصين، والصين فقط، أما باقي البلدان الغربية الكبرى فهي تستطيع التفاعل معه من زاوية توفير أعلى مستوى ممكن من البنية المادية للصحة، في نفس الوقت الذي تحاول فيه الحدّ من انتشاره.
في إيطاليا الأمور خرجت عن السيطرة، ولا أرى أي إمكانية للخروج من «الدوّامة الإيطالية» إلاّ بجهود دولية متضافرة بما في ذلك الخبرة الصينية نفسها.
البلدان الفقيرة ـ مثلنا ـ ليس لديها سوى تشديد الإجراءات لأن البنية لا تحتمل الانتشار على الإطلاق، ولهذا فإن أشد أنواع الإجراءات هي الحل الوحيد ولا يوجد أي حلول أخرى.
يجب ألا نخاف من الإجراءات الوقائية والاحترازية، لأن أي استهتار على هذا الصعيد يعني أن ننتظر كوارث لسنا بمستوى التعامل معها، كلما شددنا الإجراءات والتحوّطات أمّنا أنفسنا ومجتمعنا، وعلينا أن نتحمل معاً هذه المسؤولية، وهي مسؤولية وطنية من الدرجة الأولى، وهي مسؤولية جماعية وأصبح العمل التطوعي ضرورياً وملحّاً وفي منتهى الأهمية.
وعلى كل حزب سياسي وحركة اجتماعية وأهلية أن تعتبر هذه المعركة اليوم المعركة الوطنية الأولى مباشرة.
المجتمع المتكافل هو الذي يعيد نشر الوعي الوطني والعلمي والتصدي لحروب الشائعات ونشر الخزعبلات.
لا يوجد دواء أو حل قريب للقضاء على الفيروس، ويستحيل إيجاده قبل اكتمال دورة الشتاء، وربما الشهور الأولى من الصيف.
ليست المشكلة في عدد الوفيات، فهي قليلة جداً على كل حال بالمقارنة مع أمراض وأوبئة أخرى، وإنما المشكلة في الانتشار، ومن هنا فإن الحدّ من الانتشار هو مربط الفرس، وخصوصاً في حالة بلدٍ مثل فلسطين.
إذا حاصرنا الانتشار ـ وسنحاصره ـ نكون قد عبرنا إلى برّ الأمان بإمكانيات بسيطة وبما يشبه البطولة.
ممنوع التراخي مهما كان، والمطلوب تشدّد صارم في الإجراءات. والواجب الوطني اليوم هو التفاف الشعب حول الإجراءات والعمل بكل الإمكانيات من أجل إنجاحها.
التوعية هي السلاح السحري لعدم تحويل الإجراءات إلى هلع.
وهنا يكمن الإبداع.