بقلم - عبد الغني سلامة
نشرت القناة 13 العبرية، بتاريخ 8-12-2019، تقريرا مفصلا عن جريمة اغتيال أبو جهاد، وكشفت فيه عن خفايا جديدة، باعتراف قادة كبار من جهاز الموساد.
وصف التقرير العملية بأنها الأضخم في تاريخ إسرائيل، والأكثر تعقيدا، شارك فيها: الموساد، الشين بيت، الاستخبارات، وحدة "سييرت ماتكال"، وحدة "شييطت 13"، هيئة أركان الجيش، سفارات إسرائيلية في عدة دول، أسطول من السفن البحرية، سلاح الجو، وعدد كبير من كبار الضباط والجنود وعناصر الموساد السريين، وبمتابعة مباشرة من رئاسة الدولة والحكومة والقيادة الأمنية المصغرة.. جميعهم كان لهم هدف واحد: قتل أبو جهاد..
أدرك الموساد أن أبو جهاد يقود حربا مقدسة ضد إسرائيل، وأنه شخصيا مسؤول عن أغلب العمليات التي ينفذها الفدائيون في الأرض المحتلة، هو من يحدد الأهداف، ومن يختار المنفذين، ومن يضع الخطة، ويتابعها بحذافيرها.. وأشهر تلك العمليات "عملية كمال عدوان، التي قادتها دلال المغربي"، وعمليات "سافوي"، "الدبويا"، "ديمونا"، "سفينة أطفيروس".. وغيرها..
جاءت اعترافات إسرائيل على لسان "إيهود باراك"، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الأركان وقت تنفيذ الاغتيال، و"حاييم مندل"، مدير مكتب باراك، و"موشيه يعلون" (المنفذ المباشر والأول)، "إبراهام بن شوشان" قائد سلاح البحرية، وضباط آخرين لم تُذكر أسماؤهم.
حسب تصريحات هؤلاء فإن أبو جهاد منذ سنوات وهو يخطط لعملية كبيرة سيشترك فيها عشرون فدائيا، بهدف الوصول إلى مقر هيئة الأركان، وكان من المفترض أن تكون أكبر من عملية سافوي بأربعين مرة.. لكن سلاح الجو الإسرائيلي قصف السفينة وهي في طريقها إلى تل أبيب. بالإضافة لعملية أخرى كانت تستهدف مقر الكنيست..
وحسب تصريحات قادة الموساد، فإنهم كانوا يعلمون أن أبو جهاد بالإضافة للعمليات العسكرية، بدأ يدعم شكلا جديدا من أشكال المقاومة، بالاعتماد على الجماهير، لذا، اعتبروه مهندس الانتفاضة، وأنه يمولها، ويدعمها بشتى الطرق.. وقد صارت الأمور أكثر خطورة، لذا وجب التخلص منه.
يقول "باراك": منذ سنوات ونحن نفكر بالتخلص من أبو جهاد، لكن إقامته في بيروت، ودمشق وتنقلاته الكثيرة كانت تصعِّب العملية.. كان الموساد قد أعد ملفا خاصا عنه: شخصيته، أسلوب تفكيره، كيف يتخذ القرارات، تنقلاته... وفي شهر كانون الثاني 1988، كان الموساد قد وضع تفاصيل خطة الاغتيال، بعد أن جمع معلومات تفصيلية عن منزله، وجيرانه، والحي الذي يقطن فيه، والشوارع المحيطة.. حيث وصل عناصر الموساد إلى تونس على هيئة صحافيين وسياح ورجال أعمال، وبدؤوا بجمع المعلومات.. ومن ثم بدأت تدريبات مكثفة على هدف يحاكي موقع التنفيذ، حيث أحضر ضابط الموساد "إيال رجونيس" مجسما لمنزل أبو جهاد، حصل عليه من خلال تصويره من الداخل بوساطة صحافيين أجروا معه مقابلات.. استغرق التدريب على هذا النموذج عدة شهور..
اشترك في عملية الاغتيال 700 شخص بشكل مباشر، ضمن ظروف مشددة السرية والتكتم، لدرجة أن قائد سلاح البحرية، وقادة أجهزة أخرى لم يكونوا يعرفون بالخطة، وحتى الجنود الذين شاركوا في التنفيذ لم يكونوا يعرفون اسم الشخص المستهدف إلا بالحرفين (أ،ج).. فقط غرفة العمليات المشتركة هي من كانت تعرف، وكانت الخطة تقتضي عدم ترك أي أثر إسرائيلي.
في شهر آذار، وأثناء التدريب على تنفيذ الاغتيال، نفذ فدائيون بتعليمات مباشرة من "أبو جهاد" ضربة قوية لإسرائيل، استهدفت مفاعل ديمونا، قُتل وجرح فيها أكثر من عشرة إسرائيليين.
شاركت في عملية الاغتيال أربع سفن حربية ضخمة، منها حاملة طائرات مروحية، وعدد كبير من السفن الصغيرة والزوارق سريعة الحركة (161 سفينة كبيرة وصغيرة).. بإسناد خفي من سلاح الجو، وسلاح الغواصات وحاملات الصواريخ، ومعهم ميناء كامل متحرك.. وهو أكبر أسطول بحري ينفذ عملية حربية في البحر المتوسط، وقد خرجت السفن على شكل أزواج، حتى لا تثير الانتباه، لتلتقي بعد يومين عند نقطة محددة قريبة من موقع التنفيذ (كان باراك مسؤول القطع البحرية).
وقفت السفن على مسافة ساعتين من الشاطئ، ثم نزلت القوارب المطاطية بأربعين جنديا ليصلوا بعد منتصف الليل، حيث يكون الشاطئ فارغا من الناس، وكان بانتظارهم عدد آخر من عناصر الموساد، لتقديم الدعم اللوجستي، وكان التواصل بينهم بالإنجليزية.
انتظروا قليلا ليتم التأكد من وجود أبو جهاد في المنزل، ومن أجل ذلك، قام الموساد باعتقال أحد أقاربه في غزة، وطلب منه إجراء مكالمة هاتفية معه، وعند بدء التنفيذ وصلت معلومة استخباراتية من وحدة "سييرت ماتكال" الموجودة في محيط المنزل، أنَّ أبو جهاد سيغادر المنزل بعد 45 دقيقة.. وتأكد لها ذلك بأن موعد طائرته التي سيغادر على متنها الساعة 3.30 صباحا. وهنا بدلا من سير المجموعة المنفذة بشكل هادئ حتى لا تثير الشكوك صارت تسير بأقصى سرعة، لتصل قبل خروجه..
الساعة الثانية صباحا، وقبل أقل من ساعة على الموعد المفترض لمغادرة أبو جهاد منزله، تقدم عنصران من الموساد أحدهما كان متنكراً بزي امرأة نحو الحارس الذي كان يرابط داخل سيارته أمام المنزل مباشرة، وأردياه على الفور بكاتم صوت، بعدها مباشرة قفز الجنود فوق السور، وبمفتاح خاص اقتحموا المنزل، خرج إليهم الحرس المقيمون في الطابق الأرضي، فقتلوهم على الفور، صعدوا للطابق الثاني، وسمعوا صوت تجهيزه لسلاحه، وما أن خرج أبو جهاد من مكتبه شاهراً مسدسه نحوهم (وقد أطلق طلقة واحدة منه)، سرعان ما انهملت عليه سبعون رصاصة أصابت مختلف أنحاء جسده.
عندما خرج الجنود من المنزل، كانت أصوات الرصاص قد أيقظت الحي، وبدأت الأنوار تظهر، والناس تنظر من النوافذ لتعرف ماذا يحصل.. وقد احتاج المنفذون عشرين دقيقة للوصول للشاطئ بسيارات سياحية مستأجرة، حتى أنهم وقفوا عند إشارة ضوئية، وقد باغتتهم سيارة شرطة تونسية، وقد سمعوا من خلال أجهزة التنصت أن قوات تونسية في طريقها للمنطقة، فقام فنيو الاتصالات في الموساد بالتشويش على الاتصالات التونسية، وإعطائهم معلومات مغلوطة عن مكان إطلاق الرصاص، لإبعادهم، ما مكنهم من الوصول للسفن ومغادرة المنطقة سريعا.
في يوم استشهاده في مثل يوم غد قبل 32 عاما، اشتعلت الأرض المحتلة، واستشهد معه 32 فلسطينيا..
رحم الله أمير الشهداء.. فقد كان استشهاده خسارة لا تعوض.