في الفترة القادمة، سأنشر سلسلة مقالات تتناول فئة عزيزة على قلوبنا جميعاً؛ الأشخاص ذوي الإعاقة، سأحاول طرح قضيتهم، وتسليط الضوء على معاناتهم، متطلباتهم، أحلامهم، ما يزعجهم، وما يودون قوله، كيف نتعامل معهم، وهناك جوانب صادمة ومحبطة ومخيفة في هذا المجال، تُبرز الوجه الآخر للمجتمع.. لعلنا نتشارك في رفع الظلم عنهم، وتوفير احتياجاتهم المادية والمعنوية والقانونية، وتحسين أشكال التعاطي معهم.. ستكون المقالات نتاج مشاهدات عينية، وقصص حقيقية، ومقابلات مع أشخاص ذوي إعاقة، وشهادات مباشرة منهم.. وبالتنسيق مع جمعية نجوم الأمل لتمكين النساء ذوات الإعاقة.
البداية مع الأديب والقاص والمترجم جمال قواسمي، في شهادة اعتراف وبوح وفضفضة، كتبها بقلمه:
عن اكتشافاتي لذاتي والكتابة والإعاقة
بين الفينة والأخرى، طوال حياتي، كنتُ أعثر على كنز من المعلومات عن ذاتي، لم أكن أعلمه من قبل. فجأة أدرك كل بضع سنوات أنني أتعرف إلى شخصي، كأنني لا أعرف من أنا تماماً. هل نتغير أم أنني جاهل وأبله؟ هكذا تعثرت بصفات برج الجدي مؤخراً، وبرج الجدي كتوم وجيناته البرجية لا تسمح له بالتعبير عن نفسه. وهذا صحيح إلى حد كبير، فهل هذا منسوج في ذاتي أم أنني اكتسبتها أو أصَّلتُها خلال حياتي؟
في طفولتي تعرضتُ كثيراً للتنمر من نظرائي في حارة الواد وفي مدرستي البكرية، وكنتُ أخشى الاستمرار في الشكوى لأبي لئلا يزعل مني، فقد كان يقول لي: لو بتقوللي في حدا ضربك، كمان أنا راح أضربك! ما تسمح لحدا يضربك!
تعودت على الكتمان، وأنَّ التعبير عن أوجاعي ومشاعري ضعف لا يليق بالإنسان.
حتى بعد ظهور مرضي في سن الثانية عشرة (ضمور عضلات)، شعرتُ بأن مشاعري المتفجرة غضباً وإحباطاً ويأساً تجعل مَنْ حولي يشفقون عليّ، وهذا إحساس كان يقتلني.
بمرور الزمن، بتُّ أكنس مشاعري من لساني، هي تظهر على وجهي وحدها، لكنني أعقلها بلساني، أتكلم بقدر، وأكتب بقدر، وأجاوب بقدر؛ وإن فشلتُ يوماً في كبت مشاعري، اندفع بلا حدود وبكل عنفوان وصخب.
كنتُ دائماً أنكر أنني أتعرض للتنمر، والإقصاء من الآخرين، وللسخرية من مرضي والشماتة بمرضي أو جسدي، ومشاعر الشفقة التي هي تعويض للناس عن مشاعرهم عن أنفسهم، للتمييز ضدي بسبب إعاقتي، رفض الناس لاستقلاليتي والاعتراف بنديتي، وكثير من الأمور المشابهة الأخرى…
كنتُ أتجاهل كل ذلك وأصرُّ على أنني إنسان مثل أي إنسان في مجتمعي أو على الكرة الأرضية، إنسان قوي له إرادة وله طموح وله حلم يريد أن يحققه. لن يقبلني المجتمع بضعفي بل بقوتي، ولن أكون مثلما يرونني بل كيفما أرى نفسي.. لذلك كان عليَّ أن أتجاهل واقعي ومرضي وإعاقتي، وأن أعمل لأكون مستقلاً، له وظيفة وله دور اجتماعي.
لم أكن أسمح لنفسي بالانزعاج من آراء الآخرين عني، لم يهمني يوماً أن أعبر عن الوجع نتيجة تمييز المجتمع ضدي ولا معاملة الناس الفوقية معي، كنتُ أتجاهل ذلك وأتحداهم.
التعبير بحد ذاته شهادة مني بالضعف، وأنا لستُ هشاً، ولا أريد أن أكون كذلك.
ثمة فجاجة في تعاملي، ثمة صراحة في تعاملي، مشاعري في وجهي ظاهرة، ولساني معقود، أنا جَدّيٌ والجدي عنيد ولا يهتم بالتعبير عن نفسه. قال أخي وليد لروحه السلام ذات يوم لإحدى صديقاتي: جمال ينسى أحياناً كثيرة أنه معوق. كلامه صواب، لكن لو قال تناسى، ربما لأصاب أكثر.
لم أشأ يوماً أن ألجأ للقلم وأشكو عن الإعاقة، وكيف نتعامل مع ذوي الإعاقة، كمادة توعوية أو تربوية أو فضفضة تنم عن أوجاع إنسان هامشي أو مُضطهد أو يعاني التجاهل والحرمان.
المرة الوحيدة التي طُلِب مني أن أكتب عن الإعاقة، كانت حين طلب مني مديري في العمل نعيم ناصر كتابة مقالة افتتاحية لمجلة بلسم عن الإعاقة، فادَّعيت أنها عتبة لفهم الحياة؛ والمرة الوحيدة التي طُلِب مني أن أتحدث عن إعاقتي كانت في أوائل التسعينيات، فقد وجه لي زملاء سابقون في جامعة بيت لحم، دعوة لإلهام جرحى الانتفاضة في المبنى القديم للجمعية العربية لتأهيل المعوقين في بيت لحم، ولم أشأ أن أكذب عليهم وأشجعهم بالكلام المعسول: هل كنتُ قاسياً عليهم؟
قلتُ أشياء كثيرة سلبية عن مجتمعنا، ولكنني أريد مجتمعي أن يقبلني كما أنا، أن يعطيني فرصة أن أعمل وأعتاش من عملي بكرامتي وأن أتزوج وأستقل.. كم أزعج كلامي منظمي اللقاء.. فهذه التوقعات الحيوية والطبيعية قد تكون صعبة المنال لكل جريح انتفاضة جديد أصبح من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقيل لي إن ذلك يبث اليأس في الجرحى، لكني لم أشأ أن أداري الوجع وأخدع أحداً.
كانت الكتابة مهربي، الأدب يسمح لك بخلق الشخصيات والاختباء خلف أسمائها وأقنعتها وأزيائها.
سألني القاص والروائي عزت الغزاوي لروحه السلام ذات يوم عن الذات في كتاباتي، فقلت له إن ذاتي موجودة في بعض القصص وفي أسلوب السرد أحيانا.
سألني كيف. قلت له: قصص "العرافة حياة" بعضها عني، وقصة "جاي معك" تحكي عن راوٍ يصف ما يراه في الحارة من برندة الدار، هو مثلي معوق لأنه من جرحى الانتفاضة ويصف ما يحدث، أنا فعلياً مختبئ هنا، لا أتكلم عن أوجاعه أو هشاشته أو تضحيته، إنه في وضع الرائي والعالم بالحال والناس، هو يكشف مواطن القوة ومواطن الضعف، لكنه شخص فاعل وكاتب له دور.. لا تزال شخصية أحمد في قصة "جاي معك" عالمي الكتابي في داخلي وفي كتاباتي؛ في سنوات الثمانينيات، في قصص مجموعتي الأولى "العرافة حياة"، العام 1988، ثمة قصة واحدة تحكي مباشرة عن سيرتي، وهي فعلياً أول قصة قصيرة أكتبها؛ كأنني شعرت بأنني كتبتها وخنتُ نفسي فقررت أن تكون الأخيرة، لكنّ ثمة قصتين أو أكثر تحكي بشكل غير مباشر عني: "غرفة جمال"، و"العرافة حياة".
وللحديث بقية..