بقلم : عبد الغني سلامة
قبل سنوات قليلة، أصدرت محكمة صلح غزة حكماً بالسجن ستة أشهر وغرامة ألف شيكل على الصحافية هاجر حرب، بعد أن أدانتها بتهمة تضليل الرأي العام، وذلك على خلفية قيامها بتحقيق استقصائي كشفَ عن وجود فساد في دائرة العلاج بالخارج في وزارة الصحة، حيث تبيّن من خلال التحقيق تلقّي طبيب من الدائرة مبالغ مالية لقاء تسهيل «السفر للعلاج» للمرضى في القطاع.الفساد المتعلق باستغلال حاجات الناس (وخاصة المرضى والفقراء) لم يتوقف عند التحويلات الطبية، فقد ذكر شهود كثر، وعبّر مدونون ونشطاء على صفحاتهم الشخصية، وأيضا أشار عدد من الكتاب في مقالاتهم إلى قيام عناصر من الأجهزة الأمنية التابعة لـ»حماس» في غزة بتلقي رشى مالية مقابل تسهيل مرورهم من معبر رف
وفي تحقيق استقصائي أجراه الصحافي يوسف حسان حول خفايا العمل الخيري في قطاع غزة، وانتشار ظاهرة التسول الإلكتروني، تحدث فيه عن سرقات لأموال التبرع، وابتزازات جنسية لنساء فقيرات مقابل الحصول على إعانة.. وهو ما أثار حالة من الجدل في غزة، فتم استدعاء الصحافي إلى «داخلية غزة»، والتحقيق معه.. وكانت النتيجة اعتذاره عن التحقيق، والإقرار بأنه ما ورد فيه غير صحيح.بالإضافة للاستغلال البشع للحالات الضعيفة، والسرقات، والابتزاز، والتهديد بالقوة.. ثمة أشكال أخرى لا تقل بشاعة في الإساءة للفقراء، وامتهان كرامتهم.
شاهدنا عشرات الصور لجمعيات «خيرية» وهي توزع مساعدات عينية على الفقراء، أو مبالغ مالية زهيدة جدا (خاصة المنحة القطرية).. المشكلة ليست في التبرع ذاته، ولا في تفاهة قيمته، المشكلة في إصرار أصحاب الجمعيات على تصوير أنفسهم وهم يقدمون تبرعاتهم للفقراء، ونشر الصور في الصحافة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.. قد يكون الدافع إقناع الجهات الممولة بأن أموالهم راحت إلى الجهات المستحقة، وذلك للحصول على المزيد، أو دعاية للجمعية نفسها، ولكن ذلك كله على حساب كرامة الفقراء، فتصويرهم بهذه الطريقة ينطوي على قدر من الإذلال، والإساءة للعائلة كلها، ليس في الوقت الحاضر وحسب، بل وحتى في المستقبل البعيد.
وأيضا، الإصرار على طباعة عبارة «تبرع من الجهة الفلانية» على حقائب الأطفال المدرسية! مع أن هذا يعني وسم ذلك الطفل بالفقر والعوز وسط أقرانه، وفي الشارع.وكذلك قيام بعض الأثرياء بما يسمى «موائد الرحمن»، أي دعوة عدد كبير من الفقراء على إفطار جماعي في رمضان، وتصويرهم وهم يتناولون طعامهم.. ولحسن الحظ توقفت هذه الممارسة هذه السنة بسبب جائحة كورونا.وأيضا، جرت العادة أن تقوم «الجمعيات الخيرية»، وكذلك لجان وزارة الشؤون الاجتماعية بزيارة بيوت الفقراء، للتأكد أنهم فعلا فقراء، ويستحقون المساعدة.. إلى هذا الحد الإجراء مقبول ومعقول، المشكلة في المعايير التي يتبعونها، والاشتراطات القاسية لإثبات حالة الفقر.. سأذكر لكم حالات أعرفها شخصيا، وسمعت منهم مباشرة:
ذات مرة قامت سيدة مسنة «صمّاء» بمراجعة مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية في إحدى مدن الضفة، فطلبت منها الموظفة هويتها، فقامت بإخراج كل ما في جعبتها، ووضعتها على الطاولة، كانت هذه السيدة تحتفظ بأي ورقة تعتقد أنها مهمة، فهي أمية، وكان من بين الأوراق سند قبض من أحد البنوك باستلام مبلغ مائتي دينار، مرسلة من قريب لها يعيش في الخارج، فقامت الموظفة بتدقيق كل الأوراق وتبين وجود سند آخر بمبلغ مشابه.. على الفور استنتجت أن هذه السيدة غير فقيرة، وقررت قطع المساعدة عنها وهي (مائتا شيكل).. لم تتعب نفسها بالتدقيق، فلو فعلت لعلمت أنها تعيش وحيدة في بيتها القديم المتهالك، وأن المبالغ التي يرسلها لها المحسنون زهيدة ومتباعدة، كل سنتين مرة، وجميعها لا تكفي لشراء ثلاجة مستعملة.
وفي قصة أخرى، قامت لجان التفتيش التابعة لإحدى الجمعيات الخيرية في عمّان، بزيارة إحدى العائلات التي تقدمت بطلب مساعدة، فوجدت البيت نظيفا ومرتبا، لا بل لديهم تلفزيون.. وبالتالي تم رفض طلبهم.
وفي الزرقاء، دأبت أرملة على طرق أبواب الجمعيات الخيرية، وكانت قبل زياراتهم التفتيشية تقوم بإخفاء كافة الأجهزة والأدوات «البرجوازية» (فيديو، خلاط مولينيكس، طنجرة ضغط، طقم فناجين فاخر ما زالت تحتفظ به ذكرى لأيام العز قبل استشهاد زوجها) كانت تخبئ تلك الأشياء عند الجيران، حتى لا يراها المفتشون، وذات مرة أتوا على شكل «كبسة» مفاجئة، وكانت النتيجة قطع المساعدات عنهم.
لجأت الأرملة إلى مركز لتحفيظ القرآن الكريم، فطلبوا منها إحضار أولادها الأربعة إلى المركز، وكان الاشتراط أن يحفظ كل طفل منهم عددا معينا من آيات القرآن كل شهر، فمن قام بواجبه يتلقى عشرين دينارا، ومن لم يحفظ لا يحصل على شيء، سوى الأجر من الله سبحانه، فكانت معاناة تلك السيدة مع أطفالها إقناعهم أو إجبارهم على الحفظ، وإلا باتوا دون عشاء.مشكلة تلك الجمعيات (وهي مشكلة أخلاقية) لا تكمن فقط في تعريفهم للفقر، بل في إصرارهم على دوام هذا الفقر.. لأن وجود الفقراء، واستغلال حاجاتهم وضعفهم هو سر بقائهم ونجاحهم.
محسن «كريم» يشترط مقابلة رب العائلة للتأكد أنه فقير، فإذا علم أنه مدخن، امتنع عن مساعدته.. ومحسن آخر متخصص في مساعدة الطلبة العاجزين عن دفع رسومهم الجامعية، يشترط مقابلة الطالب، أو الطالبة، وبناء عليه يقرر، وفق شروطه الخاصة، ينظر إلى ثيابه وقصة شعره ونوع هاتفه النقال.مثل هؤلاء «المحسنين» ومثل تلك الجمعيات لديهم صورة نمطية بائسة عن الفقراء؛ الفقير، وحتى يعترفون بفقره يجب أن يكون على شفير الهاوية، وملابسه رثة، ولا يمتلك شيئا من «كماليات» الحياة، مثل الهاتف، أو شبكة إنترنت. المريض يجب أن يكون على حافة الموت.. الأسرة يجب ألا تمتلك شيئا من مقتنيات العصر الحديث، وأن يكون بيتها متهالكا، وآيلا للسقوط، والأثاث إذا كان ضروريا يجب أن يكون قديما ومهترئا.. يجب أن يكون في البيت واحد على الأقل من ذوي الإعاقة.. رب البيت إذا كان متعطلا عن العمل، فلا عذر له إلا إذا كان مقعدا.. الأرملة التي لديها فتيات ليس ضروريا أن يدخلن الجامعة، يجب تزويجهن.بالتأكيد هناك عشرات الجمعيات الخيرية، ومحسنون كثر، لديهم معاييرهم الإنسانية، وأساليبهم المحترمة، يفعلون الخير لوجه الله، ولا يمنون، ولا يؤذون، ولا يسعون لأي دعاية انتخابية، يبتغون الخير لأنهم خيرون بالفعل.