النقد بمعناه البسيط والمباشر مواجهة الإنسان لذاته، ومراجعة أفكاره وتصرفاته، والاعتراف بما اقترفه من أخطاء.. وهذا ينطبق على الآخرين.. في حالة النقد الذاتي يتطلب الأمر شجاعة وأمانة.. وهذه قلما تحصل؛ إذ إن الإنسان عادة يستريح لما نشأ عليه من أفكار، ولا يراجعها، ويبرر لنفسه ممارساته.. وإن لاحظ على نفسه أي تصرف سلبي، أو أفكار متناقضة، فإنه يتساهل ويتسامح ويغض الطرف.. أما تجاه الآخرين، فإنه يكتشف أخطاءهم بسهولة، وبنفس السهولة يقدم لهم النصح والإرشاد.
وكما أن الإنسان لا يقيّم نفسه بشكل موضوعي، فإنه أيضاً لا يحبذ تقبل النصح والانتقاد من غيره.. وذلك لسبيين، الأول: أن أسلوب الوعظ غير محبب، حيث يتلبس الواعظ شخصية الأستاذ، وبالتالي يجد "الموعوظ" نفسه في دور التلميذ.. والثاني: لأن الأفكار والمعتقدات والقيم التي نشأ عليها صارت جزءا من تكوينه النفسي، وكونت معالم شخصيته، ولم يعد بوسعه الفصل بينها وبين ذاته وشخصيته، وبالتالي عندما يستمع لأفكار مختلفة، أو لرأي يتناقض مع ما نشأ عليه، فإنه يستشعر تهديداً خارجياً يريد أن ينسف شخصيته، أو يسخّف أفكاره، ومن هنا، وحتى لا ينهار عالمه الداخلي، تتحرك لديه ميكانيزمات الدفاع (الإنكار، الرفض، التجاهل، التبرير، التعايش).. ولهذا السبب أيضاً يحب الإنسان العيش مع الجماعة التي تحمل نفس أفكاره ومعتقداته، لأن ذلك يعزز قناعاته بها، ويجعله مطمئنا لصحتها.. والمقصود بالجماعة هنا القبيلة، الطائفة، الحزب.
تتشابه الصورة على مستويات أكبر، أي نفس الجوهر، ولكن بأشكال أكثر تعقيداً.. فكما يهتم الفرد بالحفاظ على أمنه وسلامه الداخلي، تهتم القبيلة بتماسكها ووحدتها، ومصالحها، وضمان ديمومة تقاليدها، كذلك تفعل الطائفة والحزب والدولة.. لذلك ترفض تلك التشكيلات كل أشكال النقد، أو تتجنبها؛ فالنسبة للقبيلة أي نقد لقيمها وأعرافها يعني خروجاً عن الإجماع، يجابه بالنبذ والإقصاء، وأي نقد للطائفة يجابه بالتكفير، وأي نقد للحزب أو للدولة يتهم بالعمالة، والعمل لأجندات أجنبية، ولصالح الأعداء.
إشكالية النقد لا تكمن في غيابه وحسب، بل وفي أشكاله وأساليبه في الحالات التي يُمارس فيها.. فيتحول إلى سيل من الشتائم وصب اللعنات، أو التجريح والتشكيك والاتهامات.. لذا اقترن النقد في العقلية العربية بالتشويه، ومحاولة النيل من الطرف الآخر.. ما أدى إلى تغييبه أو النظر إليه بريبة، فنلاحظ مثلاً على المستوى الفردي، إذا انتقدك شخص ما، ستظن أنه يريد التقليل من شأنك.. وإذا انتقد شخصية مرموقة، أو حدثاً معيناً، أو فكرة ما (وهذه تشكل عناصر مركزية مقدسة في الثقافة التي نشأت عليها)، فإنك ستجزم بأنه نقد مشبوه، ومعادٍ.
التقديس واحد من أهم أسباب تغييب النقد الموضوعي: تقديس الأشخاص (سواء الشخصيات التاريخية، أو الزعيم الحالي) يعني رفعهم إلى مقام فوق النقد، وبالتالي التسليم بكل أقوالهم وتصرفاتهم.. تقديس الأحداث التاريخية، يعني عدم إمكانية وضعها في سياقها التاريخي، والنظر إليها بموضوعية، وأخذ العبر منها.. تقديس الأفكار والنصوص والمرجعيات الأيديولوجية والدينية والموروث الثقافي يعني وضعها في قوالب جامدة، وسلبها مرونتها، وحرمانها من إمكانية التطور.. تقديس الحزب ونظامه الداخلي وقرارات قيادته يؤدي إلى تكلسه وانفصاله عن الواقع، والاستمرار في أخطائه.. وفي حقيقة الأمر، كل أشكال التقديس هذه من صلب عاداتنا وقيمنا، وهي أحد أهم أسباب تخلفنا وضعفنا.
وقد أدت أشكال التقديس هذه إلى تكلس وتراجع الأحزاب العربية، وتراجع دور النخب المثقفة؛ وبالذات تقديس الشعارات والنصوص التي أنتجت في ظرف تاريخي مختلف، وإسقاطها على الحاضر، فنجد أن الأحزاب القومية واليسارية ما زالت تتبنى نفس الأيديولوجيات التي نشأت قبل قرن أو أكثر، الأحزاب الإسلامية تتبنى الأيديولوجيات السياسية (بما فيها الفقه والتشريعات) التي أنتجت قبل أزيد من ألف عام.. دون مراعاة للتطورات والتغيرات العميقة والجوهرية التي أصابت كافة مناحي الحياة.
ومن إشكاليات النقد أيضاً المبالغة والتشدد فيه، وهنا نجد على سبيل المثال المبالغة في انتقاد السلطة الوجه الآخر للمدح والتملق (التسحيج)، فكلاهما يحجب رؤية الحقيقة، وكلاهما لا يقدم نقداً موضوعياً أميناً، ولا يخدم إمكانية التطوير، والمحاسبة، وتجنب الأخطاء.. لهذا السبب يختفي الكثير من الأصوات الأمينة والصادقة، وتتردد في إيصال صوتها، خشية من اتهامها بالنفاق (إذا أرادت الثناء على ظاهرة جيدة، أو قرار سليم)، أو اتهامها بالعمالة إن أرادت انتقاد سياسات خاطئة.
وإلى جانب المبالغة والتهويل، نجد غياب الموضوعية والنسبية في النقد، حيث نتخذ موقف تأييد أو موقف عداء مطلق وكلي تجاه الشخص، أو الحزب أو النظام السياسي، فإما شيطنته كليا، وعدم رؤية أي جانب إيجابي فيه، أو وضعه في مرتبة القديسين.. وحتى النقاد الموضوعيون كثيراً ما يجدون صعوبة في التخلي عن آرائهم المسبقة، أو تحيزهم الفكري.. فالمسألة ليست هينة.
وكذلك نجد الخلط بين نقد الفكرة أو الممارسة أو الموقف، ونقد الشخص نفسه، فتصبح العواطف هي اللاعب الأساسي (أي الكراهية أو الحب)، فيتحول النقد إلى هجوم شخصي، عادة ما يصل إلى الاتهام بالخيانة.. أو أن يُمارس النقد من منطق الاستعلاء والتطهر، أو التهكم، دون تقديم حلول أو اقتراح بدائل؛ وبالتالي نخطئ في تشخيص الخطأ، ونحيد عن الدور الوظيفي للنقد، وندخل في المهاترات الشخصية والمناكفات الكلامية.. ثم نجد أنفسنا في موقف حرج عندما تتغير مواقف نفس الشخص، فنتحالف معه، وننسى أننا اتهمناه بالخيانة!
في الحالة الفلسطينية، نجد أن غياب النقد والمراجعات من بين أسباب إخفاق الثورة الفلسطينية في تحقيق أهدافها؛ فبالرغم من جسامة الأحداث التي مرت بها، لم تقم القيادة بالمراجعات والنقد الذاتي بالعمق والجرأة بما يكفي للاعتراف بالأخطاء، واستخلاص العبر، وتصويب المسار، لذا كانت تراكم أخطاءها، بدلا من تصحيحها..
النقد لا يعني التهجم والخلاف الشخصي، أو العداء المطلق، أو الرفض الكلي.. النقد ممارسة عقلانية، وظيفتها كشف مكامن الخطأ، لتجنب الوقوع فيه ثانية، وتصويب المسار، وتطوير الأداء.. والنقد ضروري للتجدد والديمومة، وشرط أساسي للنهوض والتقدم، وكلما كان النقد متحرراً من التقديس، والمطلق، والشخصنة، والأحكام المسبقة، والثنائيات الحادة، والشعارات.. حقق هدفه ودوره الوظيفي بشكل أفضل.
قد يهمك أيضا :
عبد الغني سلامة يطلق كتابه "فلسطين في الأسر الصهيوني" في رام الله
عبد الغني سلامة يوقع كتابه "قبل أن نرحل"