بينما كان الشاعر المخضرم مالك بن الريب يحتضر، متأثراً بلدغة أفعى، وهو في بلاد فارس، بعيداً عن دياره وأهله، رثى نفسه في قصيدة مشهورة، ومن بين ما قال:
لما تراءت عن مرو منيتي
وخلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه
يقـر لعيني أن سهيلٌ بدا ليا
فظهور «سهيل» ذكّره بموطنه وعشيرته، وأشعل الحنين في قلبه، ويبدو أن العرب كانوا يظنون أن «سهيل» نجم خاص بهم، ذلك لأنه يظهر بوضوح في الجزيرة العربية، ويبدأ بالاختفاء كلما صوبت شمالاً، ويختفي تماماً عن آخر الشمال لبلاد الشام.
ويبدو أيضاً أن «سهيل» كان رمزاً للحب عند العرب، فهو متلألئ اللمعان، متعدد الألوان، ومتذبذب الظهور، فشبَّه العرب لمعانه المترقرق بخفقان قلب العاشق، ولونه اللامع بوجنة المحب.. قال عنه أبو العلاء المعري قبل نحو ألف عام:
وسهيل كوجنة الحب في اللون
وقلب المحب في الخفقـان
ضرّجته دمـا سيوف الأعـادي
فبكت رحمة لـه الشعريان
سهيل، من أجمل نجوم السماء، وأكثرها لمعاناً، ويعد ثاني ألمع نجم بعد الشعرى اليمانية، إشعاعه أقوى من الشمس 15 ألف مرة، وقطره يكبر عن قطر الشمس بسبعين مرة، ويعتبر من النجوم الفردية المنعزلة العملاقة، ويبعد عنا مسافة 312 سنة ضوئية، أي أنه يقطن في مجرتنا درب التبانة.
يمكن رؤيته في السماء الجنوبية في النصف الثاني من شهر آب كل سنة، يسمونه نجم اليمن؛ كونه يطلع من جهة الجنوب، ويظهر بوضوح ابتداء من 20 آب، وتستمر رؤيته حتى أواخر نيسان، حيث يختفي ليعود مرة أخرى في آب.
وظهوره بداية التغير الفصلي، وإنذار بقرب انتهاء الصيف وقدوم الخريف، وانتهاء ريح السموم، ودليل على اعتدال الجو وكسر حدة الحرارة، حيث تتحسن الأجواء ويبرد الماء مساءً، ويبدأ النهار يقصر، والليل يطول، وتخف حرارته.
ويفسر الفلكيون السبب الرئيس لتغير الطقس للأفضل في هذا الوقت، المقترن بظهور «سهيل» هو زيادة ميلان أشعة الشمس الساقطة على الأرض، وليس للنجم ذاته أي تأثير، فالشمس في هذا الوقت تميل نحو الجنوب، ويزداد اقترابها من خط الأفق يوماً بعد يوم، حيث يكون ارتفاعها عن الأفق 71 درجة عند طلوع سهيل، مقارنة بـ 84 درجة في منتصف حزيران، ما يجعل أشعتها أقل حرارة.
والجدير بالذكر أن «سهيل» لا يظهر في أوروبا وشمال أميركا وتركيا وأقصى شمالي العراق، بل إنه ابتداء من خط عرض 38 شمالاً لا يشاهد بتاتاً؛ لحجب تحدب سطح الأرض لرؤيته، وكلما اتجهنا جنوباً ازدادت فرصة مشاهدته لوقوعه في الجزء الجنوبي من خط الاستواء.
و«سهيل» من النجوم التي استخدمت في الملاحة قديماً، حيث اعتبره الملاحون وأدلاء القوافل نقطة ارتكاز وتوجيه مثل نجمة الشمال.
في بادية الجزيرة العربية وفي موروثها الشعبي أهمية كبيرة لنجم سهيل، فظهوره يستدل به الصيادون الصقارون على بدء موسم الصيد، ويهتم به عرب البادية لأنهم سكان صحراء قاحلة وجافة، فطلوعه بداية للانفتاح الفصلي بعد معاناتهم الشديدة من أشعة الشمس ولفح الهواء الساخن، حيث تبدأ عملية التحول التدريجي في المناخ، وتأخذ درجة الحرارة في الانخفاض تدريجياً، ويصاحب ذلك اخضرار النباتات الصحراوية، وانخفاض درجة حرارة المياه الجوفية. وحيث يفيء الظل بعد أن كان نادراً في الأشهر السابقة، ويبرد آخر الليل وتهب ريح الجنوب الرطبة. وهو بداية موسم الرُّطب، وانتهاء ادخار التمر، وفي هذا الوقت تحس المواشي بالراحة فتدر الحليب، وتبدأ الطيور المهاجرة بالاستعداد لرحلتها الطويلة.
علماً أن موسم سهيل مخيف للمزارعين، خاصة مزارع النخيل لأنه من المحتمل أن تسقط فيه الأمطار، وهي في هذا الوقت تؤثر سلباً على التمر وتفسده.
في الميثولوجيا الشعبية أن نجمة أحبت «سهيل»، لكنها تاهت في الفضاء، وغاصت في أرجاء المجرة المجهولة، ومن شدة حبها بكته، حتى غمصت عيناها، فسميت «الغميصاء»، فسار سهيل في رحاب الكون يبحث عنها، فيختفي طوال العام، ثم يظهر في أواخر الصيف.
وفي الأسطورة العربية «سهيل» من فتيان اليمن، وهو زوج الجوزاء، وشقيق الشعرى، وكان عشّاراً يأخذ العشر ويجبي الضرائب، ويقطع الطريق على النجوم، أحب سهيل اليماني فتاة حسناء شامية، وهي شقيقة لستة فتيات حسان، هن بنات نعش السبع، ولما ذهب إلى أبيهن اختلف سهيل معه فقتله، فحزنَّ على مقتل أبيهن وأقسمن ألا تدفن جثته إلا بعد أن يأخذن بثأره، فحملت أربع نجمات منهن جثمانه، بينما سارت الثلاث الأخريات خلف النعش. هرب سهيل إلى الجنوب، فصار يمانياً، وشقيقتا سهيل «الشعري الشامية» و»الشعري اليمانية» لحقتا به، واستطاعت اليمانية أن تعبر نهر التبانة، إلا أن «الشامية» بسبب ضعفها لم تستطع، وبقيت في مكانها شمالاً، وراحت تبكي على أخيها دهوراً حتى «غمصت» عيناها، فسميت «الغميصاء».
في الموروث الشعبي الفلسطيني نجد أهمية لنجم سهيل، والعديد من الأمثال الشعبية، مثل: «إذا طلع سهيل برد الليل»، علامة على بدء تغير الطقس وقرب انتهاء الصيف، «إن طلع سهيل آوي الخيل»، أي خشية من تعرضها للمطر المفاجئ في الليل، «وإذا ظهر سهيل لا تأمن السيل»، مستبشرة بإقبال موسم ممطر، وبداية سقوط الأمطار ولكنها بشكل نادر جداً، وبداية لزيادة الرطوبة خاصة ساعات المساء، وتشكل ظاهرة الندى، ما يزيد من لطافة الجو.
في الروزنامة الشعبية، بعد ظهور سهيل فإنه يتخذ أربع منازل، كل منزلة مدتها 13 يوماً، تبدأ من 24 آب، يكون الجو فيها دافئاً ورطباً ليلاً وحاراً نهاراً، ثم فترة الجبهة تبدأ من 6 أيلول، وفيها يدخل الخريف وتزداد الرطوبة ويتشكل الضباب، الثالثة تبدأ من 20 أيلول وفيها يتساوى الليل بالنهار، ثم يأخذ الليل بالزيادة، والمنزلة الأخيرة تبدأ من 3 تشرين الأول وتسمى الصرفة لانصراف الحر بعدها.
ولفرقة العاشقين الشهيرة موال شجي للأسرى، بصوت الفنان حسين المنذر، وكلمات الشاعر أحمد دحبور: بنص الليل نجم سهيل أسرى، يبلغ كل بيت وكل أسرة، بإنو بعد في أبطال أسرى، ولازم ينكسر قيد العدا..