لا أحد يستطيع تحديد ما هو أهم اختراع في التاريخ، فجميع المخترعات مهمة، وما يبدو لك تافهاً، ربما يكون في غاية الأهمية.. ربما تتفوق الإبرة بأهميتها على الطائرة؛ خاصة لحظة اختراعها، فرغم شدة بساطتها، إلا أنها صاحبة الفضل في إنقاذ الجنس البشري، في مرحلة موغلة في القدم، حين كانت ضرورية لاجتياز عصور الجليد؛ فبسبب الإبرة تمكن الإنسان القديم من حياكة جلود الحيوانات، لينعم ببعض الدفء، وحتى لا يموت متجمداً.
ما كان ترفاً في زمن سابق، أو مجرد خيال علمي، أو حتى لم يخطر ببال، أصبح الآن في صميم حياتنا، ولا يمكن الاستغناء عنه.. وفضلاً عن تعذر تحديد أي اختراع أهم من الآخر.. يصعب أيضاً تحديد المخترع الأول.. أو المخترع الحقيقي.. أما شهادات براءة الاختراع، فُتمنح لصاحب الخطوة النهائية، أي لمن حول فكرة ما إلى آلة يمكن استخدامها.. لكن السؤال، من أين أتت الفكرة؟ ومن أوجدها؟
لنأخذ مثال «الغواصة النووية»، أو «القمر الاصطناعي»، وربما يكونان أكثر المخترعات تعقيداً.. فهل بوسعنا تحديد اسم شخص، فنقول عنه هو المخترع الأصلي لتلك الآلات العملاقة وبالغة التعقيد؟
في الواقع، لم يكن ممكناً اختراع الغواصة قبل السفينة، ومن قبلها القارب الشراعي، ولم يكن ممكناً اختراع القمر الاصطناعي قبل اختراع الطائرة، ومن قبلها السيارة، ولم يكن ذلك ممكناً قبل اكتشاف الوقود، وقبل سلسلة من المخترعات والاكتشافات، تعود إلى تقنية صهر المعادن، ومن قبلها إلى الثورة الزراعية، وصولاً إلى اختراع الإبرة.
لو تفحصت مكونات القمر الاصطناعي لوجدت فيه ما يمكن عده ويتعذر إحصاؤه من معدات وأدوات وتقنيات وأجهزة، كل واحدة منها تعتمد على الأخرى، وتعتمد على ما سبقها من اختراعات واكتشافات ونظريات علمية.
تاريخ العلم عبارة عن سلسلة متصلة، قد نعرف ملامح بداياتها، وهي في الحقيقة بدايات يتعذر حصرها، ولكننا لن نعرف نهايتها من المخترعات والقوانين العلمية.
هناك نقاط مفصلية، ومخترعات ثورية أحدثت فرقاً هائلاً، ونقلت العالم من مرحلة إلى أخرى (غالباً ما تتزامن مع الحروب، وبسببها).. وهناك تغيرات صغيرة جداً، بيد أنها تراكمت وصار بوسعها إحداث فرق جوهري.
لتتبع أي ظاهرة، أو لفهم أي اختراع، تحديد البدايات أمر في غاية الصعوبة، حتى لو توافرت لدينا كل التواريخ والأسماء، تظل هناك بدايات غير مرئية، ومجهولة، أو غير واضحة، أو بسيطة جداً، لكنها تغييرات تراكمت فوق بعضها، وتطورت تدريجياً وصولاً إلى نقطة أهم، وهكذا.
فمثلاً اختراع فيسبوك، كان يجب أن يسبقه اختراع الإنترنت، ومن قبله لغة برمجة، ومن قبله اختراع الحاسوب (تذكروا كيف كان شكل وحجم وإمكانيات أول حاسوب)، ومن قبله اختراع التلفاز والمذياع والتلغراف، ومن قبلها اختراع الموصلات والمكثفات والحساسات، وقبل كل شيء اكتشاف المجال الكهرومغناطيسي، وتحويله إلى طاقة ومجال.. وهكذا.
ولو أخذنا مثال الطائرة، وتتبعنا مسار تطور اختراعها، سنجد عباس بن فرناس، والأخوين رايت، والألماني تيسيبلين، والأميركي لانجلي، ومن قبلهم رسومات دافنشي، وأساطير الإغريق عن كائنات مجنحة، وعشرات غيرهم.. سنجد محاولات طيران إنسان بجناحين، وطائرات شراعية، وبالونات، ومناطيد، فضلاًً عن عشرات المحاولات الفاشلة، لمخترعين مجهولين، ومعروفين.
الطائرة اليوم تطير بأمان وتحط بيسر بفضل اختراعات عديدة سبقتها، ونتيجة تلاقح حقول علوم مختلفة: الكهرباء، التعدين، اللدائن، الميكانيك، الملاحة، الأرصاد الجوية، الفلك، قوانين الجاذبية، قوانين الحركة، الإنترنت.. حتى الصناعات الغذائية، وأصول الضيافة، والمحاسبة، والإدارة.. ودون كل ذلك، لن يكون هنالك طيران ولا طائرات.
ولو تتبعنا مسار تطور الكمبيوتر، لوجدنا أن الخطوة الأساسية كانت نقشاً مسمارياً على حجارة صماء، سبقها اختراع الأبجدية، ومن قبلها اختراع اللغة والكلام، فتطور الإنسان من النقش على المسلات والصخور، إلى النقر على الكيبورد.. وما بينهما عشرة آلاف سنة.
بعد الكهوف انتقلنا إلى بيوت الشعر والخيام، ثم البيوت الطينية، ثم طورنا تقنية استخراج الإسمنت، وصولاً إلى ناطحات السحاب، والتي كان لزاما أن يسبقها اختراع المصعد.
الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية، والتكتلات الاقتصادية، تماماً مثل المخترعات العلمية.. مرتبطة ببعضها، وتسبقها إرهاصات ومقدمات، وتحيط بها ظروف ذاتية، وموضوعية، ولا يمكن فهم أي ظاهرة سياسية أو اجتماعية دون فهم كل الظروف المحيطة بها، وتتبعها.. وهو ما يُعرف بعلم السيسيولوجيا.. وهو نقيض نظرية المؤامرة.
الظواهر والأحداث المجتمعية لا تنشأ فجأة، بل هي حصيلة تراكمية لقيم وأعراف وتقاليد وبيئة جغرافية واقتصادية وثقافية، فلا يمكن فهم ظاهرة قتل النساء، أو اضطهاد الأطفال بمعزل عن البنية العشائرية والعقلية الذكورية والأبوية البطريركية وطريقة فهم الدين، وتاريخ المنطقة.
الفساد مرتبط بالبنية الثقافية المجتمعية، والنظام السياسي، والواقع الاقتصادي، وهذه كلها مرتبطة بالواقع الاجتماعي، والسياسي، وهكذا.
الخارطة السياسية أيضاً مرتبطة بما سبق، وهي نتاج لواقع تتأثر به، وتؤثر عليه، ولفهم أي حدث سياسي لا بد من دراسة الظروف التاريخية والموضوعية التي أحاطت به وقت حدوثه.
فمثلاً، لفهم طبيعة إسرائيل، ودورها الوظيفي، ومكانتها في المعادلة الكونية، ومستقبلها.. يجب فهم الحركة الصهيونية، وبالتالي دراسة المشهد السياسي في الفترة التي نشأت فيها، ومعطياتها الدولية، وظروف الجماعات اليهودية، وخياراتها.. ومن ثم فهم التطورات التي حدثت فيما بعد، وتداخلاتها المختلفة.
ولمعرفة لماذا الوضع الفلسطيني على هذه الدرجة من البؤس والتعقيد، يجب الرجوع إلى واقع الشعب الفلسطيني قبل وبعد النكبة، وتأثير الخارطة الإقليمية عليه.. ومسار الأحداث خلال العقود الماضية، فأي حدث، حتى لو كان بعيداً، وصغيراً، سيكون له تأثير على الحاضر. فلا يمكن فهم أوسلو بمعزل عن كامب ديفيد.
المقصود، التدرب على فهم وتحليل الأحداث بمنهجية علمية، وتفكير سليم، بعيداً عن نظرية المؤامرة، وألا ننظر إلى النتيجة فقط، أو خلط السبب بالنتيجة، أو إرجاع الظاهرة إلى سبب واحد، وتعليق كل شيء عليه، دوماً هنالك أسباب وعوامل عديدة، ومتشابكة.
التفكير العقلاني مرهق، ونحن اعتدنا على التفكير السطحي، ونستريح للخلاصات السريعة، والكلام الإنشائي، والخطاب الشعبوي.. وتلك من أبرز مشاكلنا.