بقلم : عبد الغني سلامة
في أواخر عصر الميسونين، قبل ستة ملايين سنة، بدأ النيل يحفر مجراه منطلقاً من بحيرة فكتوريا، مروراً بسلسلة من الاتصالات المتبادلة بين عدد الأنهار المنفصلة، حتى اتخذ مجراه الحالي قبل عشرة آلاف سنه، جالباً معه الخير والنماء لكل أرض يصلها، ويفيض عليها بالخصب والحياة.
بسببه، ومن خيراته عاش خلق كثيرون، وما زال ليومنا هذا الشرط الأول لبقاء الحياة على طول حوضه الممتد لآلاف الأميال.. على ضفتيه نشأت أقدم الدول، وأولى الحضارات، وكانت مصر هبته الأثمن، فرفعه المصريون القدماء إلى مصاف الآلهة، وأسموه «حابي»، إله الخير والسعادة.
في القرن الثاني والثلاثين ق.م تمكن الملك «نارمر» من توحيد مصر الجنوبية مع الشمالية وإقامة أول دولة مركزية في التاريخ، ومن بعده حكم البلاد ثلاثون أسرة ملكية عرفت بالفراعنة.. وبين «مينا» الفرعون الأول، و»نخت أنبو الثاني» آخر فرعون، أنجز المصريون أعظم وأهم حضارة عرفتها الإنسانية.. فإذا احتوت الدنيا بأسرها على عجائب سبع، فإن في مصر وحدها سبع عجائب، لا نظير لها في أي مكان في العالم.
كان «سنفرو» أول من بنى هرماً، بتصميم بدائي، وظل هذا التصميم يتطور حتى جاء «خوفو»، وبنى الهرم الأكبر، أطول وأعظم وأعقد بناء على كوكب الأرض لأربعة آلاف سنة، ما زال هذا المبنى يجلب الأموال والسياح لمصر.. من بعده أتى «خفرع» فبنى هرما ثانياً، وأضاف إلى جانبه أبو الهول، أضخم تمثال في العالم قُـدَّ من صخرة واحدة.. ومن بعده بنى «منقرع» هرماً ثالثاً، والذي بموته انتهى حكم الأسرة الرابعة.
ومن ضمن الأرقام القياسية التي حطمها المصريون حُكم «بيبي الثاني»، الذي دام 94 سنة، وهي أطول فترة حكم في التاريخ، والذي بعد موته انهارت الدولة المصرية القديمة.
ستمر على البلاد فترات ضعف وقلاقل، تخللها احتلال الهكسوس، الذي دام قرنين، حتى طردهم «أحمس»، مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، أشهر وأهم أسرة في التاريخ الفرعوني.
في هذه الفترة تأسس أول جيش نظامي محترف في العالم، وتشكلت أول بيروقراطية، ونعرف من هذه الأسرة «أخناتون»، أول من دعا لتوحيد إله واحد، «أتون»، إله الكل.. و»توت عنخ آمون»، الذي أعاد البلاد لدين إلهها القديم «آمون»، ومات عن ثمانية عشر عاماً، وكانت مقبرته أول وأعظم مقبرة مكتشفة غبر منهوبة، مليئة بالكنوز والمقتنيات الثمينة والأسرار الدفينة.. وفي هذه الفترة برز دور ريادي للمرأة، فظهرت «حتشبسوت» العظيمة، صاحبة أطول المسلات، التي حكمت كل مصر عندما كانت أقوى دولة في العالم، و»نفرتيتي» الجميلة، و«نفرتاري» التي كانت تطلع الشمس لأجلها.
في عهد الهكسوس وفترات ضعف الدولة انتشرت سرقة المقابر، التي كان يعرفها اللصوص من خلال الأهرامات، فتوقف الفراعنة عن بنائها، وبدؤوا يدفنون موتاهم في وادي الملوك، الذي ظل مخفياً لآلاف السنين.
ثم جاءت الأسرة 19، التي لا تقل أهمية عن سابقتها، ظهر فيها «رمسيس الثاني» الذي حكم 67 سنة، وبنى معبد أبو سمبل، ويُقال: إنه الفرعون الذي تربى النبي موسى في بلاطه.
في الأُسر العشر التالية بدأت الدولة تضعف، فتداولها الفرس والأشوريين والرومان، إلى أن جاء الإسكندر المكدوني.. والذي من نسل أحد جنرالاته، وهو «بطليموس»، تحدرت «كليوباترا» أشهر النساء التي حكمت مصر، كانت ذات قوة حضور، وشخصيتها لا تقاوَم، بقدراتها الدبلوماسية، ودراستها للرياضيات والطب والكيمياء، وإتقانها تسع لغات.. كانت آخر ملوك البطالمة، وهي التي سجنت «يوليوس قيصر»، إمبراطور روما، ثم تحالفت معه، ثم مع «أنطونيو» من بعده من أجل الحفاظ على قوة مصر، لكنها انتحرت قبل 30 عاماً من ميلاد المسيح.
في فترة الاحتلال اليوناني، الذي دام 300 سنة، أُلغيت طبقة رجال الدين، لأنها غير منتجة، وهؤلاء وحدهم من يكتبون بالهيروغلوفية، وبذلك انقطعت العلاقة بهذه اللغة، ولم تكن خسارة المصريين لغتهم الخسارة الوحيدة؛ فقد خسروا حكمهم لأنفسهم لقرون طويلة قادمة.
بعد البطالمة، استولى الرومان على مصر، لقرون ستة، باستثناء فترة وجيزة خضعت فيها لحكم الملكة «زنوبيا».. ستصير «الإسكندرية» عاصمة للبلاد، وستبنى فيها منارة عظيمة، وأضخم مكتبة في العالم، وأهم متحف روماني.
في تلك الحقبة كانت مصر من أوائل مراكز المسيحية في الشرق. لكن موجة عنيفة من الصراعات الطائفية بين المسيحيين واليهود والوثنيين ستضرب البلاد، وستؤدي إلى قتل «هيباتايا»، أجمل عالمة رياضيات، والتي بعد مقتلها أُحرقت مكتبة الإسكندرية بكنوزها ولفائفها الثمينة، ليسود الظلام والجهل في كل العالم القديم لخمسة قرون تالية.
في القرن السابع الميلادي احتل الفرس مصر، ثم طردهم الرومان، ثم جاء الفاتحون العرب المسلمون داعين إلى دين جديد، ولغة جديدة، مدشنين صفحة أخرى في التاريخ المصري.
تعاقب على مصر بعد الخلفاء الراشدين الأمويون والعباسيون، ثم الفاطميون، الذي أعادوا لمصر دورها المركزي، بعد أن ظلت ولاية على هامش الإمبراطوريات، ثم جاء الأيوبيون ونكلوا بالفاطميين، للقضاء على التشيع.. في تلك الفترة المضطربة مثلت «شجرة الدر» استثناء مشرقاً، فهذه الملكة العظيمة حكمت مصر في ظرف دقيق وصعب، وأثبتت تفوق المرأة وتمكنها، وأنقذت البلاد من الانقسام، ومن بعدها جاء المماليك، لتشهد البلاد فترات ضعف وفتن، ومؤامرات على السلطة، وتقاتل على من يستعبد المصريين، وكانت «الشدة المستنصرية» الفترة الأسوأ، حيث دفعت المجاعة الناس لأكل بعضهم بعضاً.
لكن المصريين في تلك الحقبة ردوا عن المشرق أخطر عدوين: الفرنجة والمغول.
قبل 500 عام، رفض قائد المماليك «طومان باي» طلب السلطان «سليم الأول» بالتسليم والخضوع لدولة الأتراك، فانتهى الأمر بهزيمة المماليك في موقعة الريدانية (بعد هزيمتهم في مرج دابق)، ودخول السلطان العثماني القاهرة، وشنق السلطان المملوكي وتعليق جثمانه على باب زويلة، لتنتهي 267 سنة من حكمهم.
لكن المماليك سينتهون للأبد بعد مذبحة القلعة، التي قتل فيها «محمد علي» كل من تبقى منهم.
كانت «قلعة الجبل» (التي بناها السلطان الكامل شقيق الناصر صلاح الدين)، مقراً للحكم، واستمرت كذلك حتى عهد «محمد علي»، لينتقل مقر الحكومة من القلعة إلى قصر عابدين، في عهد الخديوي إسماعيل.
ستخضع البلاد لاحتلالين: الفرنسي، ثم البريطاني، وستنشب ثورات وطنية، وستشهد تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة.. ومع بداية القرن العشرين، بدأت مصر عهداً جديداً ومختلفاً..
وللحديث بقية..